الجزء الأول
تشهد العلاقات الأوروبية الأمريكية في الآونة الأخيرة توترا شديدا، من حيث الهيمنة السياسية والاقتصادية، وباتت أمريكا تعتمد على سياسة جديدة تعادي حلفاء الأمس (دول أوروبا الغربية)، وظهر هذا التوتر وطفا على السطح وبقوة في عهد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب.
ترى أمريكا حين تتعامل مع الدول الأوروبية أنها هي التي دفعت التكاليف الدفاعية أمام الخطر السوفياتي سابقا، وهي التي خاطرت، فبالتالي يجب أن تحوز هي على المصلحة كاملة دون نقصان، وتريد من الدول الأوروبية الغربية أن تدفع تكاليف مغامرات أمريكا في سبيل حيازة هذه المصلحة. والدول الأوروبية أيضا دول تحكمها الرأسمالية، ولديها مصالح، وتسعى لامتلاك وحيازة مصالح أخرى، وهكذا بدأ الاختلاف في النظرة إلى المصلحة ومن يحوزها يطفو على السطح، طالما أن أمريكا تنظر من زاوية أنها يجب أن تحوز على مزيد من المصالح ولو على حساب حلفاء الأمس، وهنا وصلت الأمور إلى حد حقيقي، وبدأ الصراع يظهر للعالم جليا بعد أن كان خفيا، والسؤال الذي يفرض نفسه هل تستطيع الدول الأوروبية منع أمريكا من تحقيق هذا الهدف؟
بالنسبة للتصريحات الأوروبية في هذا الشأن، فقد أظهرت أنها تريد منع أمريكا من تحقيق هذا الهدف، ولكن هل استطاعت الدول الأوروبية عمليا الوقوف في وجهها؟ الجواب لا، ودليل ذلك أنه عندما جاء ترامب لحضور قمة حلف شمال الأطلسي طالب الدول الأوروبية المشارِكة في الحلف أن تدفع النسبة المتفق عليها سابقا وهي 2% من إجمالي الدخل القومي، وزاد على ذلك بأن طالب بأن تدفع الضعف، وقد وافقت الدول الأوروربية على ذلك وحددت جدولا زمنيا لتحقيق المطالب الأمريكية، والتي لم تكن الدول الأوروبية تلتزم بها سابقا، والحاصل أن موافقة الدول الأوروبية على مطالب ترامب هو كونها مجبرة على فعل ذلك وليست مختارة، وقد استخدمت أمريكا بعض الأوراق للضغط على أوروبا ومنها الخطر العسكري الروسي في سبيل تحقيق مطالبها.
أما بالنسبة للإجراءات الحمائية الأمريكية في فرض ضرائب على البضائع القادمة من أوروبا في مجال الحديد والصلب والألمنيوم، والضرائب التي فرضتها على شركات السيارات القادمة من أوروبا والنسبة الأكبر منها ألمانية، فهل تؤثر هذه الإجراءات على أمريكا وسوق العمل الأمريكي؟ وهل أمريكا غافلة عن هذه الآثار؟ بداية لا بد من الإشارة إلى أن الإدارات في البيت الأبيض، وانطلاقا من المبدأ الرأسمالي عندما تطرح الحلول للمشكلات فإن هذه الحلول تتسم بأنها مؤقتة، وعلى حساب مشاكل أخرى، وهي حلول في طبيعتها ليست جذرية ولها أضرار جانبية، شأنها في ذلك شأن كل الدول الغربية التي تتبنى المبدأ الرأسمالي، على عكس المبدأ الإسلامي الذي يعطي حلولا جذرية للمشاكل، ولا تؤدي حلوله إلى إيجاد أضرار جانبية.
وفي الحقيقة فإن أمريكا تدرك أن هذه القرارات والمعالجات المؤقتة تؤذي الاقتصاد الأمريكي، وسوق العمل الأمريكي، وتزيد من معدل مستوى البطالة في أمريكا، والسؤال المطروح لماذا تتحمل أمريكا هذه الأضرار الجانبية، وفي سبيل ماذا؟ والجواب لأن هنالك خطرا أكبر من هذه الأضرار الجانبية. فعلى سبيل المثال جاءت أمريكا في عهد أوباما بسياسة الدولار القوي، وهي تدرك أن هذه السياسة من شأنها التأثير على حجم الصادرات الأمريكية سلبا، ومع ذلك اتخذت هذه الخطوات، للحد من المساعي التي قامت بها بعض الدول، مثل الصين لإيجاد سلة عملات متعددة من بينها الدولار، ولكن بعيدا عن هيمنة الدولار، في سعي منها لضرب الدولار كعملة عالمية مهيمنة. أمام هذا الخطر المحدق اتخذت الإدارة الأمريكية سياسة الدولار القوي، لأنها استشعرت أن هذا خطر حقيقي من شأنه التأثير وبشكل جدي على الهيمنة الأمريكية الاقتصادية وهي الدولار، ولذلك تحملت أمريكا الآثار الجانبية لهذه السياسة، ومن الخطأ النظر للأضرار الجانبية للسياسات الأمريكية، وإغفال الهدف الاستراتيجي الذي تسعى أمريكا لتحقيقه من خلال هذه السياسات.
وبالمثل فإدارة ترامب تدرك أن هذه الإجراءات الحمائية فيما يتعلق بالميزان التجاري ضد الدول الغربية الأوروبية من شأنها الإضرار بالاقتصاد الأمريكي، وسوق العمل الأمريكي، وقد تغلق بعض المصانع، ويرتفع مستوى البطالة، وتزيد تكلفة بعض السلع، ولكن هي تتحمل الأضرار الجانبية في سبيل الحد من خطر أكبر، فهي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وما لم تتخذ هذه الإجراءات فقد يتعرض الكيان الأمريكي برمته للترهل على المدى المنظور، فأمريكا تنظر أن هنالك مشكلة داهمة خطيرة قريبة تستلزم حلا، وهنالك مشاكل بعيدة أقل خطورة، ويمكن التعامل معها وتحملها، فلذلك لا يجوز تركيز النظر على الأضرار الجانبية وإغفال المشكلة الخطيرة الداهمة التي يجب التعامل معها.
والمدقق في سياسات الإدارة الأمريكية يجد أنها لا تنظر إلى جميع الدول بالنظرة نفسها، فقد يكون الميزان التجاري لدولة ما يميل لصالح هذه الدولة على حساب أمريكا، ولكن أمريكا لا تعبأ بهذا، كون هذه الدولة لا تشكل خطرا حقيقيا داهما، ولكنها تنظر إلى الصين على أنها خطر حقيقي وداهم، وتنظر إلى التكتل الأوروبي على أنه خطر حقيقي وداهم، وأمريكا حينما نظرت إلى الموضوع نظرت من ناحيتين؛ ناحية قانونية وناحية أخرى منطقية، أما القانونية فقد استغلت ثغرة في اتفاقية منظمة التجارة العالمية، حيث يحق للدولة المشاركة أن تتخذ إجراءات وتدابير معينة حمائية في حال كان الأمن القومي لهذه الدولة معرضاً للخطر نتيجة الالتزام بالاتفاقية، والناحية الأخرى المنطقية التي نظرت إليها أمريكا، أن السوق الأمريكي ضخم جدا، وأمريكا حين تفرض الضرائب تكون هي المستفيدة، كون مجموع ما يدخل أمريكا من أوروبا أكبر مما تصدره هي لأوروبا، فمقدار الضرائب الذي ستتحصل عليه أمريكا مما تفرضه على واردات أوروبا، أكبر مما ستتحصل عليه أوروبا في حال فرضت الضريبة نفسها على البضائع الأمريكية، لأن الميزان التجاري يميل لمصلحة الدول الأوروبية على حساب أمريكا، عدا عن كون الدول الأوروبية لا تستطيع أن تتوقف عن التصدير لأمريكا، فسوق أمريكا ضخم جدا بالإضافة إلى الجشع الأمريكي، ومن المعروف أن الشخص الأمريكي هو أكثر مستهلك للسلع في العالم، وهو ما تم مشاهدته حينما خرجت الشركات الأوروبية من السوق الإيرانية بعد أن نقضت أمريكا الاتفاق مع إيران، ولم تغامر الشركات الأوروبية الكبرى في فرنسا وألمانيا بتعريض مصالحها الكبيرة مع أمريكا للخطر، مقابل أن تبقى في إيران، فالمصلحة مع السوق الأمريكية أكبر وبمرات عدة من السوق الإيرانية المتواضعة بالنسبة للسوق الأمريكية، والأهم أن الدول الأوروبية لم تستطع حماية مصالح شركاتها في إيران، وهذا ما يدلل على إدراك إدارة أمريكا مكامن القوة وراء هذا القرار، وهكذا أذعنت أوروبا فعلا وإن لم يكن قولا للسياسة الأمريكية.
رأيك في الموضوع