بالرغم من محاولة بريطانيا وفرنسا استبعاد أمريكا من اتفاقيات البترول في المستعمرات التي كانت تخضع لها حسب اتفاقية سان ريمو 1921، إلا أن شركة ستاندارد أويل - كالفورنيا الأمريكية تمكنت من الحصول على امتياز تنقيب عن النفط في البحرين ومن ثم في السعودية سنة 1933 حيث كانت نواة شركة أرامكو. والتي دخلت في تركيبتها شركات أمريكية أخرى مثل تكساكو (تكساس أويل) وإكسون وموبل أويل. وبهذا تشكلت مجموعة الشركات النفطية العظمى من خلال حصصها في امتياز النفط السعودي. وبقيت هذه الشركات تستأثر بعائدات النفط كاملة حتى هدد الملك عبد العزيز سنة 1950 بتأميم شركة النفط الأمريكية إن لم تشاطر الملك نصف الأرباح. ما اضطر الحكومة الأمريكية إلى إعفاء الشركات أعضاء أرامكو من الضرائب بما يكافئ الأرباح التي تقدمها للسعودية. إلا أن السعودية عادت واستحوذت على كامل حصص الشركات الأمريكية ابتداء من حرب تشرين سنة 1973 وانتهاء بسنة 1988 حيث أصبحت أرامكو مملوكة بالكامل للسعودية وأصبح اسم الشركة سعودي أرامكو. وتعتبر أرامكو أو سعودي أرامكو حاليا أكبر شركة عالمية حيث قدرت قيمتها سنة 2005 بحوالي 781 مليار دولار ويقع تحت سيطرتها أكبر حقل نفطي على الأرض اليابسة (حقل غوار) وأكبر حقل تحت الماء (حقل السفانيا).
وأمريكا وبكل تأكيد لم يرق لها استحواذ السعودية على صناعة النفط السعودية وإن كانت بقيت محتفظة بمكانتها التسويقية والتسعيرية للنفط. وقد عبر عن سخط أمريكا سفيرها في السعودية خلال الثمانينات من القرن الماضي وليام سافير الذي اعتبر أن المال النفطي يجب أن لا يبقى تحت سيطرة الأمراء والشيوخ الذين لا يدركون أهمية هذا المنتج العظيم، ودعا إلى تغير تدريجي في السعودية يبدأ من نشوء طبقة وسطى ومثقفة وقادرة على إدارة الحكم والسياسة والاقتصاد في السعودية. إلا أن الظروف السياسية وتحكم عملاء بريطانيا من العائلة السعودية في مقاليد الحكم لم يسمح لأمريكا من استعادة سيطرتها على مقدرات النفط في السعودية بشكل فعال. ومع ذلك فقد انتهجت أمريكا سياسة خفض أسعار النفط بشكل ملموس خلال الأعوام السابقة، ما أدى إلى تدني موارد السعودية من أموال النفط، وظهور عوار النظام المالي في السعودية، والتي حافظت على مصالح الأمراء والشيوخ دون أن تتأثر بتدني قيمة النفط في السوق. ما فرض على الدولة تعويض قيمة النقص الناتج عن تدني الأسعار من ميزانية الدولة بدلا من ميزانية الأمراء.
وحين أصبح ترامب رئيسا لأمريكا سعى بكل قوة لتولية محمد بن سلمان مقاليد الحكم في السعودية بعد أن تعهد الأمير لترامب بأن يعيد لأمريكا ما خسرته من أموال جراء نقل ممتلكات أرامكو للسعودية. فبادر محمد بن سلمان وأبوه إلى منح أمريكا ما يزيد على 500 مليار دولار على شكل صفقات تجارية وهدايا ومنح، وهذا الرقم يشكل جزءا من الأرباح التي خسرتها الشركات الأمريكية جراء التأميم الذي جرى على شركة أرامكو الأمريكية. ولم يكتف ولي العهد السعودي وأبوه بذلك بل عمدا إلى نقض قانون التأميم الذي بدأه فيصل سنة 1973 واكتمل سنة 1988. فقد قرر محمد بن سلمان التنازل عن حوالي نصف أسهم شركة أرامكو السعودية من خلال بيعها لشركاء استراتيجيين وهم من الشركات الأمريكية العملاقة بكل تأكيد.
من هنا فإن ما تقوم به السعودية من اقتراض لأموال بقيمة 10 مليارات دولار من مجموعة البنوك الدولية (HSBC - JPMorgan Chase - Bank of Tokyo Mitsubishi)، وما تخطط له من اقتراض 31 مليار دولار خلال العام الجاري لتغطية عجز الموازنة المتوقع والذي تبلغ قيمته 52 مليار دولار، ما هو إلا نتيجة طبيعية لتفريط السعودية بأهم مورد مالي لها وهو النفط والغاز.
فبدلا من أن تعمد السعودية أثناء انهيار أسعار النفط إلى التخلص من حالة البذخ الملكي الأميري الذي لا يمكن وصف بطره واستهتاره، وبدلا من تقديم الأتاوات لأمريكا وربيباتها وعملائها، وبدلا من العمل على توظيف موارد النفط في أشكال اقتصادية قادرة على تعويض النقص الناتج عن انخفاض الأسعار، قامت وبكل استهتار بأموال الأمة وأبنائها بتقديم مزيد من الأتاوات، وزادت الطين بلة بالإعلان عن بيع كثير من حصصها في شركة النفط السعودية الأمريكية. واخترعت أكبر أكذوبة في التاريخ الحديث تحت مسمى محاربة الفساد واحتجزت أمراء ورجال أعمال، ولا تزال تسعى للاستحواذ على أموالهم وردها إلى أمريكا التي ترى أنها صاحبة هذا الأموال كما صرح ترامب مرارا وتكرارا.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الاعتماد على النفط كمصدر أساس للثروة يعتبر خطأ فادحا في السياسة الاقتصادية. فكان لا بد من اعتبار أموال النفط مصدرا لتمويل المشاريع الصناعية بحيث تصبح الصناعة هي أساس الإنتاج المالي والهيكل الاقتصادي. فكثير من الدول التي لا تملك نفطا بل تملك صناعة مثل إيطاليا وإسبانيا، تحقق دخلا ماليا يزيد مرات على دخل السعودية من النفط.
والحاصل أن السعودية قد اختطت مسارا لا يزيدها إلا تنكبا، فهي لم تتمكن من تحويل المال النفطي إلى اقتصاد حقيقي يجعلها في مصاف الدول الصناعية، ولم تتمكن من الخلاص من هيمنة أمريكا وبالتالي الإنفاق على حروبها ومغامراتها في صراعها مع الدول وصياغة الأقاليم، وهي قبل كل ذلك لم تستوعب الفكر الإسلامي الراقي ومفهوم الأموال والسياسة الاقتصادية في الإسلام، بالرغم من تشدقها خلال عقود من الزمن من التشبث بالإسلام وأحكامه. فالله تعالى قد حذر من الذين يأكلون المال أكلا لمّاً ويحبون المال حبا جمّا، والذين لا ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ولكن رئاء الناس، وتفاخرا بالأموال، ولم يعتبروا من قارون وما آل إليه بأمواله وثرواته، حيث وصفه الله عز وجل بأدق الوصف: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
بقلم: د. محمد الجيلاني
رأيك في الموضوع