إن الأصل في العلاقات التركية الأوروبية منذ وصول أردوغان إلى الحكم هو التوتر، وقد يزداد وقد ينقص، فازداد بعد أن عزل أردوغان رئيس حكومته داود أوغلو السنة الماضية بإيعاز من أمريكا عندما أظهر أوغلو اللين تجاه الأوروبيين موقعا اتفاقية يوم 18/3/2016 حول اللاجئين، وقابلها الأوروبيون بوعد إلغاء تأشيرة دخول أهل تركيا إلى أوروبا، فتوجست أمريكا خيفة من أن يكون ذلك وسيلة لزيادة التأثير الأوروبي على داود أوغلو فيجد عملاء الإنجليز فرصة ليتمكنوا من العودة إلى الحكم، بعدما أسقطتهم أمريكا في انتخابات عام 2002 ومكنت أردوغان في الحكم. ولذلك أظهرت ألمانيا غضبتها فتبنى برلمانها يوم 2/6/2016 كذبة الإبادة الجماعية للأرمن.
وعندما حصلت محاولة الانقلاب الفاشل ضد أردوغان يوم 15/7/2016 فرح بها الأوروبيون، واستنكروا الاعتقالات والتصفيات التي أعقبتها، وما زالوا حتى الآن يحتجون على ذلك متذرعين بالمحافظة على حقوق الإنسان والحريات التي يتشدقون بها عندما تقتضي مصالحهم ذلك، ويتنكرون لها عندما لا يكون لهم مصلحة فيها، فعندما جرت اعتقالات لشباب حزب التحرير لم يلتفتوا إليها، حتى إنهم لم ينشروا أخبارها!
وقد نجح أردوغان بتمرير قانون لإجراء استفتاء شعبي يوم 16/4/2017 بتأييد الحزب القومي الذي يوالي رئيسه أمريكا على شاكلة أردوغان، وبفشل معارضة حزب الشعب الجمهوري الموالي للإنجليز والأوروبيين، فبدأ يروج للنظام الرئاسي حتى وصلت أصداء ذلك إلى عقر دار الأوروبيين، فاستشاطوا غضبا، فأراد أردوغان ووزراؤه أن يروجوا لهذا النظام لكسب أصوات أهل تركيا القاطنين في أوروبا، وخاصة في ألمانيا وهولندا بالإضافة إلى النمسا التي تحمل لواء الحرب الإعلامية ضد أردوغان. فجاءت ردة فعل الأوروبيين شديدة على أردوغان وأتباعه، فمنعوا عقدهم مؤتمرات تتعلق بالاستفتاء، وعندما جاء وزير خارجية تركيا منعته ألمانيا وهولندا من إلقاء خطب على أتباعه، وكذلك منعت هولندا وزيرة شؤون الأسرة التركية، وكان التحضير يجري لقدوم أردوغان لإلقاء الخطابات في ألمانيا، فكان ذلك بمثابة سد للذريعة، فلم يقدم أردوغان، وبدأ التوتر يشتد حتى اتهم أردوغان ألمانيا وهولندا بممارسة الأعمال النازية. علما أنه في الوقت نفسه مارس مثلها ضد شباب حزب التحرير فمنع عقد مؤتمرهم تحت عنوان "حاجة العالم للخلافة" وقام باعتقال المئات منهم بمن فيهم النساء والأطفال، فكان أكثر نازية من أوروبا!
إن أوروبا تعارض النظام الرئاسي لأنه يجعل الصلاحيات في أيدي أردوغان الموالي لأمريكا، ولا يعود للبرلمان قدرة على اتخاذ القرارات، حيث إن الرئيس سيتخذ القرارات، وبعدها يعترض البرلمان ويلجأ إلى المحكمة العليا، فيكون الرئيس قد نفذها وأدى العمل الذي كلفته به أمريكا. سيما وأن البرلمان هو القلعة الأخيرة لعملاء الإنجليز، حيث يحتل حزب الشعب الجمهوري الموالي لهم ربع المقاعد. وتذرعت هولندا بعدم استعدادها لتنظيم لقاءات جماهيرية للجالية التركية بالحفاظ على الأمن العام، وما تفعله هو شأن داخلي في إطار سيادتها على أراضيها، وقيمها الديمقراطية تمنعها من دعم أردوغان لتفرده بالسلطة. فكشفت عن سبب رئيسي في معارضتها لأردوغان؛ خوفها من ضرب نفوذ الأوروبيين بتفرده بالسلطة.
استغل أردوغان ذلك وصعد حملته ضد هولندا متهما إياها بدعم الرافضين للنظام الرئاسي في الاستفتاء القادم وهاجهما هجوما شرسا، ووصف ما قامت به "بالفاشية والنازية" ولمح أن "تركيا قد تمنع دخول المسؤولين الهولنديين إليها" وادعى أن "تركيا بتقدمها باتت تتحدى العالم بأسره، وأوروبا ترغب في الحد من هذا التقدم". وأردوغان يصعد مع أوروبا مثيرا للمشاعر القومية التركية ليكسب أصواتا أكثر. وله خصومة معها، لأنها لم تقبله في الاتحاد الأوروبي حيث راجعها رسميا عام 2005، فماطلت كثيرا وفتحت في وجهه الملف تلو الملف، وقبلت دولا دون مستوى تركيا بكثير. وبما أنه يتبع السياسة الأمريكية، وأمريكا تسعى لإضعاف الاتحاد الأوروبي وجعل دوله تحت مظلتها وتحكمها وأن تتخلى عن اليورو الذي ينافس الدولار، حيث إن أوروبا تنافسها اقتصاديا، وتسعى لمنافستها سياسيا، وتسعى لتشكيل قوة عسكرية خارج نطاق الناتو الواقع تحت تحكم أمريكا، فتدعم أمريكا حملة أردوغان ضد أوروبا. فكل هذه العوامل مجتمعة تجعل التوتر بين تركيا وأوروبا يزداد حدة.
وأوروبا تريد أن تضغط على أردوغان، وليس القطيعة الكاملة، فتريد أن تستمر في اتفاقية منع تدفق اللاجئين، وحجم الشراكة الاقتصادية بين تركيا والاتحاد الأوروبي كما يشير مكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات" إلى أن تركيا تأتي بالمرتبة الخامسة في حجم التبادل التجاري، وتركيا شريك استراتيجي وعسكري لأوروبا، وتريد كسبها ضد أمريكا وروسيا، وكذلك تركيا لا تريد القطعية الكاملة، فأوروبا تأتي في الدرجة الأولى للتصدير بالنسبة لتركيا.ولذلك قال وزير خارجيتها "لم نتعامل مع هولندا بالمثل ولا نريد تصعيد التوتر".
والجدير بالذكر أن بعض الدول الأوروبية تشهد حملة انتخابات واليمين المتطرف يهدد اليمين المعتدل واليسار المعتدل اللذين يحكمان أوروبا، فالحزب الديمقراطي في هولندا استغل الوضع وعمد إلى توتير العلاقات مع تركيا مستعملا لسان اليمين المتطرف حتى يكسب الأصوات ضد حزب الحرية المتطرف، وبالفعل جرت الانتخابات يوم 14/3/2017 فكسبها الحزب الديمقراطي، وكذلك في ألمانيا حيث ستجري الانتخابات العامة في أيلول القادم، فرأينا استغلال حكومة ميركل لذلك، واستعمالها لسان اليمين المتطرف وقيامها بأعمال تعسفية ضد المسلمين، فارتفعت أصوات حزبها "الديمقراطي المسيحي" حسب استطلاعات الرأي العام وانخفضت أصوات حزب البديل المتطرف، وكذلك يأملون أن يتحقق مثل ذلك في فرنسا ضد الجبهة الوطنية حزب لوبان المتطرفة، فيرجون دفع خطر تفكك الاتحاد الأوروبي الذي تستهدفه الأحزاب المتطرفة. وقد تنفس الأوروبيون الصعداء بنتائج الانتخابات في هولندا، واعتبرتها ميركل "يوما جيدا للديمقراطية".
قام أردوغان ضمن حملته وصراعه مع أوروبا باستغلال قرار محكمة العدل الأوروبية الذي يخول صاحب العمل طرد أية مسلمة بسبب لباسها الشرعي، فقال يوم 16/3/2017: "محكمة الاتحاد الأوروبي، محكمة العدل الأوروبية، بدأت حملة صليبية ضد الهلال"، كما قام واستغل مذبحة سبرنيتشا عام 1995 باتهام هولندا بالتواطؤ فيها، في الوقت الذي يتحالف أردوغان مع أمريكا رأس الدول الصليبية بجانب روسيا ضد أهل سوريا، ويسلم حلب للصليبيين وأتباعهم، ويفتح القواعد للطائرات الصليبية لتضرب وتقتل المسلمين في سوريا والعراق، وينضوي تحت شعار الصليب، شعار الناتو، متحالفا مع هؤلاء الصليبيين الأوروبيين أعضاء الناتو، وكذلك يروج للفكر العلماني والديمقراطي الذي أفرزه الصليبيون الأوروبيون ويطبقه ويدعو له، ويحارب نظام الخلافة نظام الحكم في الإسلام والساعين لإقامته.
إن ما يجري بين تركيا وأوروبا يدخل ضمن الصراع الأمريكي الأوروبي، في الوقت الذي يوظف كل طرف ذلك لمصالحه الداخلية، فأردوغان يؤجج المشاعر ضد أوروبا لكسب معركة الاستفتاء على النظام الرئاسي، وأوروبا تؤجج المشاعر لتحول دون تفكك اتحادها بقدوم اليمين المتطرف. والمسلمون في أوروبا ضحية هذا الصراع والاستغلال من دون أن يكون أردوغان صادقا معهم، مناصرا لدينهم، حاملا لدعوة الإسلام، كما سيفعل خليفة المسلمين القادم قريبا بإذن الله.
رأيك في الموضوع