المقابلة التي احتلت حيزا من 36 صفحة على مجلة أتلانتيك حملت عنوان "مبدأ أوباما" تكشف عن تفاصيل العقلية السياسية التي أدار بها أوباما السياسة الأمريكية خلال عهده. ويمكن اختصارها بكلمة واحدة: إنها محاولة يائسة لتبرير سياساته، أي أنها أشبه بمرافعة متهم يدفع ببراءته من تهمة فشل سياساته، وخاصة في سوريا. فالمقابلة، بمجملها تصب في تبرئة صفحة أوباما أمام منتقديه اليوم وغدا.
المقابلة تعرضت لعدد من قضايا السياسة الخارجية الأمريكية وأغفلت تمامًا أي شأن يتعلق بالسياسة الداخلية لأوباما، فالقضية المركزية فيها كانت ثورة الشام بامتياز.
ثورة الشام فضحت تناقضات السياسة الأمريكية ونفاقها، فلا عجب أن طغت على حديث أوباما عبر الصفحات الطوال للمقابلة (أو بالأحرى وللدقة جملة من المقابلات التي أجراها الصحفي مع عدد من مستشاري أوباما ومع عدد من كبار المعنيين بالسياسة الأمريكية كوزير الدفاع الذي خدم في إدارة أوباما بانيتا ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، ولكنه لسبب ما أغفل وزير الدفاع تشاك هيغل الذي كان وزيرا للدفاع خلال ملحمة الكيماوي في شهر 8/2013، وقد سبق لهيغل أن شن هجوما لاذعا ضد أوباما، فلعل غولدبرغ آثر الابتعاد عنه لهذا السبب كيلا يحرج الرئيس المخادع).
ابتدأت المقابلة بتفاصيل قرار الرئيس المخادع، في 30/8/2013، بالتراجع عن توجيه ضربة عسكرية ضد مواقع نظام بشار الأسد، وتتابعت الأسئلة والأجوبة في ثنايا المقابلة حول سوريا، وختمت بالتساؤل عما إذا كانت سياسة أوباما في سوريا هي الصائبة، كما استمات أوباما ومستشاروه في الدفاع عنها، أم أن التاريخ سيحكم عليه باللعنة لمشاركته، بالمعنى السلبي أي بعدم وضعه حدا، لحمام الدماء في أرض الشام. حتى ختام المقابلة جاء لافتا، إذ تساءل الكاتب عن حكمة خداع أوباما في سياسته في الشرق الأوسط، فمع أن التاريخ حكم حكما قاسيا على جورج بوش بسبب ما فعله (أي احتلاله لأفغانستان والعراق) إلا أن التاريخ سيصدر حكما على أوباما بسبب ما لم يفعله (أي عدم حسم موقفه، بنظر الكاتب، تجاه ثورة سوريا).
طبعا أوباما برر سياسته بأنها المثلى في سبيل تحقيق المصلحة القومية الأمريكية، فهذا، بنظره، يبرر تراجعه الشهير عن "الخط الأحمر" الذي سبق له أن حذر بشار من تجاوزه، أي استخدام الأسلحة الكيماوية، دون أن يرف له جفن عن مئات الآلاف الذين قضوا نحبهم على يد عميله بشار سفاح دمشق، وحلفائه ممن كانوا بالأمس القريب على رأس محور الشر في إيران.
وكما طغت ثورة الشام على المقابلة فقد كان لافتا الغياب المدوي للملف الإيراني عنها. مع أن الكاتب نفسه، غولدبرغ، كان أجرى مقابلة مطولة مع أوباما في 2/3/2012 استغرقت 45 دقيقة تركزت في معظمها على خطورة المشروع النووي الإيراني. في تلك المقابلة (2012) وصف أوباما إيران بأنها دولة راعية للإرهاب ومع ذلك رفض بحزم قيام يهود بضرب المنشآت النووية الإيرانية، وحين سأله الكاتب عن موقفه تجاه بشار أجاب أوباما بأن: أيامه أصبحت معدودة، وأن رحيله هو مسألة وقت وليس موضع تساؤل. مقابلة 2012 حملت عنوانا لافتا ذا دلالة: أوباما لقادة (إسرائيل) وإيران: أنا لا "أخادع" (bluff)، فقد جاء في جوابه: "الحكومة الإسرائيلية تدرك أنني، رئيس الولايات المتحدة، لا أخادع. صحيح أنني لا أصرح بما أنوي فعله، ولكن كلاً من الحكومة الإيرانية والحكومة الإسرائيلية تدركان أنه حين تقول الولايات المتحدة إنه من غير المقبول لإيران أن تمتلك السلاح النووي، فإننا نعني ما نقوله".
هنا تكمن "فضيحة أوباما"، تلك الفضيحة التي حاول جاهدا، خلال قرابة 20 ألف كلمة التي تضمنها مقال المقابلة والذي حشد طائفة من تصريحات ومواقف لفريق مستشاري أوباما، التستر عليها، أو، في أفضل الأحوال، تبريرها تحت ستار "المصلحة القومية العليا". ففي القضية السورية رسم خطا أحمر فاقع الحمرة حين هدد بشار بالويل والثبور فيما لو استعمل السلاح الكيماوي، ومع ذلك وأمام العالم كله، بل وحتى أمام شطر مهم من مستشاريه، بلع لسانه و"خطه الأحمر" ومنح بشار رخصة للمزيد من سفك الدماء وسياسة الأرض المحروقة في محاولاته المتكررة في قمع الثورة. طبعا خلال المقابلة المطولة ساق أوباما عددا من الاستدلالات لتبرير صحة سياسته في سوريا، ومنها أنه أتى إلى الحكم بتعهد الانسحاب من الشرق الأوسط، وتحديدا بسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، كما ذكر أن سوريا لا تشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي، وأن مركز الثقل القادم هو في آسيا ولا يستطيع، أو لا يريد، التورط في المستنقع السوري، وأن الشعب الأمريكي لا يريد الزج بأبنائه فيه، زاعما أن الملف الليبي أثبت أن الشرق الأوسط لا يمكن إصلاحه، وبالتالي فلم التورط في المستنقع السوري.
وهذا كله محاولة فاشلة ويائسة لتضليل الرأي العام المحلي والعالمي. فأوباما، مع تصريحاته الجوفاء عن وجوب رحيل الأسد (2011) وأن أيامه أصبحت معدودة (2012) وأنه فقد الشرعية (2013) ومع بلعه للخط الأحمر الذي رسمه بنفسه، لم يكتف بهذا كله بل شرع الباب واسعا أمام اعتماد إيران عصا غليظة بكل قواها، هي وعصاباتها الميليشوية، لقمع ثورة الشام. وحين عجزت إيران عن تحقيق ذلك لم يجد أوباما مانعا من التدخل الروسي الهمجي البربري. فبينما مكنت أمريكا بشار من الحصول على أنواع الدعم كافة، حرصت على التضييق على الثوار بمنع تسليحهم، بل ومنعت حتى إقامة منطقة آمنة يلجأ إليها الفارون من جحيم عميلها بشار.
وما زالت أمريكا تجتهد في التسويق لحلها "السياسي" (يستعملون لفظ السياسي لتغطية جرائمهم الدموية التي سنحاكمهم عليها في القريب العاجل بإذن الله، وسيلعنهم التاريخ حين تفضح حقائق الأمور) بكل تفاصيله. بل إن المقابلة تفضح حساسية أوباما المفرطة تجاه أي نقد يعريه ويكشف نفاق سياسته، ومن ذلك التصريحات التي أدلى بها عدد من الساسة الأمريكان ومنهم وزير الدفاع السابق ليون بانيتا الذي حذر من أن تجاهل الخط الأحمر الذي سبق تحديده يفقد الرئيس الأمريكي الهيبة ويهدر مصداقية أمريكا، وهيلاري كلينتون التي قالت إن الدول يجب أن تبني سياستها على قيم ومبادئ، وإن عدم التدخل، لإنهاء حمام الدماء في سوريا، هو سياسة عقيمة فاشلة، ما أدى بأوباما إلى الغضب الشديد حتى اعتذرت كلينتون عن قولها.
يتبع إن شاء الله..
رأيك في الموضوع