انتهت في فرنسا أعمال القمة العالمية للتغيرات المناخية وتم الإعلان عن توقيع أهم اتفاق متعلق بالتغيرات المناخية منذ أن انطلقت أعمال منظمة عبر الحكومات العالمية للتغير المناخي(Intergovernmental Panel Climate Change IPCC) عام 1988 والتي أسفرت عن تبني بروتوكول كيوتو في 11/12/1997 والذي اعتبر أن الارتفاع الحراري العالمي حقيقة وأن سبب هذا الارتفاع هو انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) الناتج عن أعمال الإنسان. وقد دخل بروتوكول كيوتو حيز التنفيذ عام 2005.وتمخضت محادثات سنة 2014 في عاصمة بيرو ليما عن ضرورة تبني آلية قانونية لإجبار الدول الموقعة على اتفاق كيوتو على الالتزام ببنود الاتفاق. وقد رفضت الولايات المتحدة والصين والهند أن تصدق على بنود الاتفاقية. وكان جورج بوش حين تم انتخابه سنة 2000 لرئاسة أمريكا قد صرح بأن "حكومة أمريكا تعارض اتفاقية كيوتو لأنها لا تفرض على 80% من الدول في العالم ومنها الهند والصين أن تلتزم ببنود الاتفاقية ما يضر باقتصاد الولايات المتحدة". علما بأن أمريكا كانت مسؤولة عن أكثر من 36% من انبعاث الغازات منذ عام 1990. وقد زاد انبعاث الغازات الأمريكية بنسبة 11% بدلا من تخفيضها بنسبة 6%. كما أن كندا واليابان وروسيا قد أعلنت أنها لن تلتزم ببنود كيوتو التي تقضي بتخفيض انبعاث الغازات بنسب تتناسب مع مقدار ما تنتجه هذه الدول من غازات. حيث إن كندا كان من المقرر أن تخفض كمية الغازات المنبعثة منها بمقدار 6% ما بين 1990 و2012، ولكن تبين أنه مع حلول عام 2009 كانت نسبة انبعاث الغازات قد زادت عن 17%. وتبين الدراسات أن كل ما نتج عن انخفاض من انبعاث للغازات خلال الفترة من 1990 حتى 2012 لم يكن للولايات المتحدة أي أثر بذلك حيث استمرت أمريكا بسياسات ثابتة في عدم تنفيذ بنود اتفاقية كيوتو. بينما عملت معظم الدول الأوروبية على الالتزام وتخفيض نسب انبعاث الغازات. وبالرغم من المؤتمرات والاتفاقيات والمفاوضات حول نسب انبعاث الغازات إلا أن الدراسات تشير إلى زيادة كبيرة وصلت إلى اكثر من 24% على مستوى العالم مقارنة مع سنة 1990 التي اعتبرت مرجعا لكمية الغازات المنبعثة. وبالرغم أن بنود اتفاقية كيوتو لم تكن كافية للحد من التغير المناخي والانحباس الحراري بشكل كاف، إلا أنها كانت أفضل الموجود، ومع ذلك فلم تلتزم الدول الصناعية الكبرى كأمريكا وكندا وروسيا واليابان والصين والهند. وبالتالي فإن قمة فرنسا لن يكتب لها النجاح ما دامت الرأسمالية النفعية تسيطر على أذهان قادة القمة. فلا أمريكا ولا روسيا ولا اليابان ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا الصين ولا الهند مستعدة أن تعيد هيكلة صناعتها وتنفق الأموال الطائلة أو تقلل أرباحها من أجل أن يسعد الإنسان ببيئة مناسبة. فسعادة الإنسان ليست ذات قيمة ربحية مباشرة تنعكس على شركة شيفرون أو برتيش بتروليوم أو فورد أو تويوتا أو غيرها من الشركات العملاقة.
إنه مما لا شك فيه أن انبعاث الغازات المختلفة وأهمها ثاني أكسيد الكربون وبكميات كبيرة جدا تصل إلى أكثر من 10 ترليون طن من الغازات، تسبب أضرارا بالغة بالمحيط البيئي للكرة الأرضية أهمها ارتفاع بمعدلات الحرارة على سطح الكرة الأرضية، والتي بدورها قد تؤدي إلى ذوبان المحيطات الجليدية بشكل متسارع يصعب مواجهته ويؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحار والمحيطات، ما قد ينتج عنه غرق مساحات واسعة من الأراضي المأهولة بالسكان. والانبعاث هذا ليس طبيعيا بل هو خارج عن الدورات الطبيعية لمكونات الكون. فمما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى قد أوجد في الكون موازين مختلفة قادرة على إيجاد توازن بين درجات الحرارة والغازات الساخنة المنبعثة من الأرض. إلا أن الإنسان الذي يسمى (حديثا) وأحيانا متطورا أو متمدنا أو متحضرا يظن أنه هو صاحب الكون وهو الذي يستطيع أن يفعل ما يريد دون الالتفات إلى أن لهذا الكون خالقاً قد وضع له موازين وأسساً، وبالتالي يفسد الأرض والبحر والجو كما قال سبحانه وتعالى ﴿ظهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
والحقيقة أن الله تعالى حين خلق السموات والأرض أوجد لها ميزاناً ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ وطلب من الإنسان ألا يطغى في الميزان أي لا يخل بميزان الله الذي خلقه. والإنسان قادر على فهم الميزان ومعرفة عمله. فلم يكن صعبا على العلماء الفيزيائيين والكيميائيين والمهندسين أن يدركوا أن كمية انبعاث الغازات بكميات تزيد على 9 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون و4 مليار طن من الميثان و2 مليار طن من أكسيد النيتروجين يسبب طبقة عازلة في طبقات الجو العليا تمنع الحرارة الزائدة من الخروج من فضاء الكرة الأرضية. وبالتالي تؤدي إلى ارتفاع مضطرد في درجات الحرارة تكون عواقبها وخيمة. وليس من الصعب معرفة الحد الأعلى من كميات الغاز المنبعثة. وليس من الصعب توزيع هذه الكميات على الدول المنتجة لهذه الغازات. وبالتالي ليس مستغربا أن تكون أهم قرارات قمة باريس هي تحديد الحد الأعلى من نصيب كل دولة من الغازات المنبعثة من مصانعها وآلياتها ومركباتها. فالميزان الذي وضعه الله للسماوات والأرض ميزان دقيق لكنه معروف ويمكن معرفته، وجعله الله من العلم الذي يدرَك من قبل الإنسان ولم يستأثر به عنده في علم الغيب. فالنواميس التي وضعها الله في الكون معلومة وفيها قابلية أن تعلم. ولكن المهم بل الأهم هو التقيد بما توحيه هذه النواميس والموازين.
إن اتفاقيات الأمم المتحدة وبروتوكولاتها مرورا بكيوتو وليما وبرلين والدوحة وباريس وغيرها من البروتوكولات تبين حقيقة ثابتة وهي أن العالم الرأسمالي ببشاعته وجشعه يعلم علم اليقين أين تكمن موازين الكون وما هي نواميسه ومع ذلك فهو يصر على خرقها وتجاوزها، بل وتحديها حتى ولو جلبت عليه وعلى العالم أبشع الكوارث وأسباب الدمار. فهل أكثر من إمكانية إغراق الكرة الأرضية بما فيها ومن فيها بسبب غازات منبعثة، التقليل منها ينقذ الأرض والبشر ولا يفقر الأغنياء ولا يزيد من الفقر! ومع ذلك يصر بوش وأوباما وميركل وبراون وبوتين وغيرهم من عبيد الدولار واليورو على الاستمرار بسياساتهم المدمرة.
وهذا التصرف تجاه آيات الله الكونية والمثبتة على شكل موازين ونواميس لا تختلف عن صلفهم وتصرفهم تجاه الآيات الموحاة إلى الرسل والتي تتضمن التشريع الخاص بالبشر. فكما أفسد الرأسماليون العلمانيون الليبراليون الديمقراطيون الكون وما فيه من مناخ ومياه وفضاء، فقد أفسدوا القوانين التي تحكم حياة البشر. فشرعوا من دون الله فأباحوا الزنا وروجوه وجعلوه أساس العلاقات الاجتماعية، فأفسدوا غريزة النوع والعلاقة الزوجية التي جعلها الله آية من آياته كما هي نسبة الغازات في الفضاء. وشرعوا الربا وجعلوه أساسا للعلاقات المالية ما جعل المال يزداد زيادة لا تنسجم مع ما ينتجه الإنسان من سلع لاستهلاكها، فكان المال سلعة تنمو وحدها هكذا بدون ضابط، ما أخل بميزان النقد والإنتاج والاستهلاك، تماما كما أخلوا بالتوازن في نسب توزيع الغازات في الفضاء. وهكذا فإن الرأسمالية وما يلحق بها من أنظمة ليبرالية وعلمانية وديمقراطية ليست إلا ضغثا على إبالة وفسادا من فوقه فساد، وإلحادا في الأرض، ومبارزة لله بالعصيان والتمرد، الذي ينذر بكوارث خطيرة.
وبالتالي فإن الخلاص من شر الفساد الذي ظهر في الجو وفي الماء وفي الأرض والفساد الذي أطاح بكل قيم الإنسان الذي خلقه الله مكرما في أحسن تقويم، وإنقاذ البشرية كلها من براثن الرأسمالية الظالمة وطغيانها الفاجر، لن يكون منطلقا من باريس أو روما، ولن يكون على منصات الأمم المتحدة، ولن يكون بقيادة أمريكا الظالمة، ولن يحصل ما دامت البشرية تصد عن ذكر الله وتمتنع عن التحاكم لشرع الله، وتجعل الإنسان ربّاً من دون الله. يجب على الناس أن يدركوا أن الله عز وجل خالق الكون والإنسان والحياة هو ربها وإلهها الذي يجب أن يطاع في الأرض وفي السماء، وأن يقف الإنسان عند الحدود التي رسمها سواء في العلاقات بين الناس فيما بينهم أو العلاقة مع الكون نفسه أو مع الله عز وجل ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
رأيك في الموضوع