إن خذلان السياسة الأمريكية سافر وواضح، حتى للبلاد المرتبطة معها ارتباطا وثيقا مثل الفلبين. فإن الفلبين حليفة لأمريكا منذ زمن طويل، مربوطة بها بمعاهدات استعمارية تشبه إلى حد بعيد المعاهدات الاستعمارية التي كانت تربط كلا من مصر، والأردن، والعراق وغيرها مع بريطانيا.
ولكن لا يمنع ذلك من خذلان أمريكا لها وحتى في قضية كانت الفلبين في أمس الحاجة إلى مساعدات أمريكا ودعمها لها، مثل قضية النزاع حول بحر الصين الجنوبي، فبعد مضي ثلاث سنوات من رفع الفلبين القضية لمحكمة التحكيم الدائمة بدعم أمريكا حصلت الفلبين على ما رامت إليه، حيث قرّرت المحكمة في لاهاي أن الصين لا تملك "حقوقاً تاريخية" على القسم الأكبر من مياه بحر الصين الجنوبي الاستراتيجية، مؤيدة موقف الفلبين في القضية. ولكن ماذا فعلت أمريكا بعد ذلك..؟ خذلتها، وكأن قرار المحكمة لا شيء بالنسبة للفلبين.
بناء على ذلك، وفضلا عن انتقادات أمريكا لسياسة الفلبين في المخدرات، رأت حكومة الفلبين المتمثلة في رئيسها رودريغو دوتيرتي أن نفاق أمريكا وصل نهايته... فحينما زار دوتيرتي الصين في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2016، أعلن "الانفصال" عن الولايات المتحدة الحليف التقليدي لبلاده، مؤكدا بذلك تحولا كبيرا تجاه الصين بعد أن اتفق البلدان على حل نزاعهما في بحر جنوب الصين عن طريق المحادثات. وقال الرئيس الفلبيني أثناء منتدى اقتصادي بعد ساعات على قمة مع نظيره الصيني شي جين بينغ "أعلن انفصالي عن الولايات المتحدة" (إير تي، 21/10/2016). وسبق ذلك قوله في كلمة أمام الفلبينيين العاملين في بكين نقلها التلفزيون في مانيلا "لا تدخل أمريكيا بعد اليوم، لا تواجد أمريكيا بعد الآن... لقد حان الوقت كي نقول وداعا صديقي، إن وجودكم في بلادي كان لمصلحتكم" (الجزيرة، 21/10/2016). وبعد ساعات من هذا الإعلان توجه الرئيس الفلبيني إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما بوصفه إياه بـ"ابن العاهرة" (الوطن المصري، 21/10/2016).
وهكذا تتابعت تصريحات الرئيس الفلبيني المعادية لأمريكا حتى نالت الرد عليه من قبل سياسيي أمريكا، حيث أكد وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر اعتزام الولايات المتحدة الحفاظ على التزاماتها تجاه الفلبين. فقد قال كارتر: "لدينا التزامات تحالف مهمة نعتزم الحفاظ عليها في الفلبين". (رويترز، 21/10/2016). وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جون كيربى "سنبحث عن توضيح لما أراد الرئيس (الفلبيني) قوله عندما تحدث عن انفصال مع الولايات المتحدة. ليس من الواضح لنا ما يعني ذلك بكل تشعباته". (إير تي، 21/10/2016).
ولكن هل فعلا تستطيع الفلبين أن تخرج من قبضة أمريكا وتحصل على تأييد دول أخرى مثل الصين وروسيا، حيث صرح الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، في 4/10، أنه حصل على تأييد من روسيا والصين عندما شكا لهما من الولايات المتحدة، مهاجما باراك أوباما بقوله "اذهب إلى الجحيم" وأضاف: "أن الولايات المتحدة رفضت بيع بعض الأسلحة لبلاده لكنه لا يهتم لأن روسيا والصين لديهما استعداد لذلك" (رويترز، 4/10/2016).
ويظهر أن ذلك ليس من المتوقع أن يحصل، إذ كيف تنحاز الفلبين إلى الصين وهي نقيضها لا سيما في قضية النزاع حول بحر الصين الجنوبي، وكيف تنحاز إلى روسيا وهي تريد الاستقرار في المنطقة لمجاورتها لها، ولم يكن لصالح روسيا أن تشعل القضية مع الصين وهي تحصن دائما حدودها معها، إن الذي أظهرته روسيا ما هو إلا مجرد علاقات ودية وصداقة بينها وبين اليابان. وكيف تنحاز إلى اليابان وهي تحافظ دائما على علاقاتها مع أمريكا.
لأجل ذلك، لا خيار أمام الفلبين إلا الصبر على صنيع أمريكا بها... فبدأ التفسير والتعديل لمقولة رئيسها النارية؛ فتارة بقول دوتيرتي للصحفيين، وذلك بعد عودته من الصين: "إن الأمر لا يتعلق بقطع العلاقات الدبلوماسية فـلا يمكنني أن أفعل ذلك، لماذا؟ من مصلحة بلادي ألا أفعل" (الحياة، 21/10/2016).. وتارة يقول: "التحالفات حية... ينبغي ألا يكون هناك قلق من حدوث تغيير للتحالفات. وأنا لست بحاجة لعقد تحالفات مع دول أخرى" (رويترز، 25/10/2016). ونقلت صحيفة نيكي عن الرئيس الفلبيني قوله لوسائل الإعلام اليابانية "إنه كان يعبر عن رأي شخصي ولم يكن يتحدث بلسان الحكومة عندما تطرق إلى مسألة الانفصال عن واشنطن" ( إير تي، 25/10/2016). وقال أمام جمع من رجال الأعمال اليابانيين "تعلمون أني ذهبت للصين في زيارة، وأود أن أؤكد لكم أن كل ما دار هناك كان يتعلق بالاقتصاد، لم نتكلم عن أسلحة وتجنبنا الحديث عن التحالفات" (رويترز، 26/10/2016). ولكن هذا يشك فيه أيضا، لأنه سبق أن قال وزير التجارة الفلبيني رامون لوبيز إن بلاده ستحتفظ بعلاقاتها التجارية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن إعلان الانفصال الذي تحدث عنه الرئيس "لا يتضمن ما يجري في التجارة والاستثمار" (الجزيرة 21/10/2016).
وهذا كله قبل فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، وأما بعد فوزه فإن تعديل دوتيرتي لقوله ظاهر، فقد قال: "قلت إنني لن أتشاجر لأن ترامب قد فاز" (شينخوا، 10/11/2016). وقد تم اجتماع لأعضاء مجلس الدفاع المشترك للفلبين والولايات المتحدة. وجاء في بيان مشترك عقب الاجتماع أن "الاكتمال الناجح لمجلس الدفاع المشترك، مجلس الارتباط الأمني، يؤكد استمرار ومتانة العلاقات بين الجيشين الأمريكي والفلبيني". (الوطن العربي، 22/11/2016).
وهكذا ظلت الفلبين في قبضة أمريكا، فهي تعبتر قاعدة أمريكية منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهي تهتم بها اهتماما بالغا لحماية نفسها من الخطر الكامن في المنطقة. وبقي أن نقول إن كل البلاد التي تريد أن تتحرر من قبضة الاستعمار عليها أن تعتمد على قوتها الداخلية لا على أي سند خارجي لأن الانحياز إلى القوى الأخرى لا يجدي، إلا أن تكون لعبة بين أيديها!
بقلم: أدي سوديانا
رأيك في الموضوع