دائما ما يحاول الغرب الكافر وأدواته من الحكام المحليين والساسة المرتهنين لفكره، الإبقاء على تبعية بلاد المسلمين، وهذه حقيقة المبدأ الرأسمالي، ولعل تمحيص النظر في ما يحصل على الساحة التونسية يكشف هذا الأمر بوضوح، حيث تعاقب الاستعمار على بلد الزيتونة واختلفت ألوانه بين فرنسي وبريطاني وألماني، وكانت الغايات الاستعمارية لهذه القوى الغاشمة تكاد تكون متطابقة ما خلا بعض الجزئيات التي لا تغير من الحقيقة شيئا، وإن أبرز الغايات هي الفكرية والسياسية والاقتصادية، وتفصيلها كما يلي:
الغاية الفكرية
تخوض الدول الاستعمارية في تونس حملة غزو فكري ممنهج من أجل الحيلولة دون إدراك الناس لحقيقة قضيتهم المصيرية ألا وهي استئناف الحياة الإسلامية؛ ولذلك ترى زبانية الحكام وفراعنة السياسة في بلادنا يعاضدهم سحرة الإعلام يحوطون فكرة الخلافة بكم هائل من المغالطات، كما لا يتوانى هؤلاء عن بث سمومهم الفكرية التي تجعل الإسلام موضع التهمة؛ فمثلا جعلوا قضية الدستور الذي توافقت عليه حركة النهضة (وهي حركة علمانية من جنس الفكرة الرأسمالية)، وبقية الحركات السياسية من قوميين وشيوعيين جعلوا هذا الدستور سبب الشر والبلاء الذي أصاب البلد في مقتل وجعلها تتلظى بنار غلاء الأسعار وكثرة البطالة والفقر، وهم بهذا الاتهام خلصوا إلى نتيجة يراد للرأي العام في تونس وكذلك في سائر البلاد الإسلامية أن يقبلها فكريا، وهي فشل الإسلام السياسي، بمعنى آخر هم يمكرون بالجماهير الغاضبة ليصرفوا أنظارهم عن شعار "إسقاط النظام" إلى النقمة على الإسلام وحملته الذين يريدون مزج الإسلام بالسياسة، وبتكرار النقر على هذا الوتر الحساس تتشكل لدى المتابعين للأحداث السياسية جملة من المفاهيم والقناعات والمقاييس، مفادها أن الإسلام قد فشل في ما مضى (تاريخيا) في إدارة الحياة السياسية وفشل اليوم بعد الثورات في رعاية شؤون الناس وتحقيق مصالحهم، وبالتالي لا سبيل للتعويل عليه مستقبلا، ومن هنا يكون الكافر المستعمر قد أحدث التباسا في أذهان الناس من جهة مطابقة الواقع لمقولة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان".
الغاية السياسية
وهذه تتبع ما سبق من حيث إن الغاية الفكرية تمهد للغاية السياسية، فبعد أن شبه لبعض السياسيين فكريا فشل الإسلام السياسي، يلقنهم الغرب الكافر فيما بعد أي الأنظمة السياسية أنفع وأصلح لحياتهم، وبالتأكيد لن يخرج من جعبة المتآمرين على هذه الأمة الإسلامية العريقة سوى النظام الديمقراطي الذي يعبر على حد زعمهم عن الإرادة الحقيقية للشعوب، ولا يهم أن يكون النظام السياسي في تونس مثلا برلمانيا أو رئاسيا، المهم عند "المسؤول الكبير" أن يتحقق من هذا النظام أمران أساسيان تتفرع عنهما بقية المشاهد في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذان الأمران هما؛ أولا: الإبقاء على الاتفاقيات الدولية والمعاهدات لصالح الاستعمار، ثانيا: الإبقاء على التشريع من خارج دائرة الوحي (الكتاب والسنة). وكما كانت أماني الغرب الكافر هيمنة فكرية فإنه يريد أيضا أن تكون هيمنته سياسية من خلال نظام الحكم يمارس من خلاله غطرسته الديكتاتورية، سواء دكتاتورية البرلمان من خلال توافق الأحزاب السياسية العلمانية (حركة النهضة وقلب تونس)، أو دكتاتورية الرئيس من خلال الرئيس الحالي قيس سعيد.
الغاية الاقتصادية
تعمل معاول الغرب الكافر في مقدرات الأمة الإسلامية بالهدم والاستنزاف، وذلك من خلال فرض النظام الاقتصادي الذي لا يحفظ إلا مصالحه، ولا يضمن إلا بقاءه فوق رقابنا سارقا مختلسا، وغايته من ذلك فوق توفير المواد الأولية والقدرات البشرية هو منع الأمة الإسلامية من أسباب القوة التي تجعلها تزاحمه في الساحة الدولية إن قامت لها دولتها التي يتوجس خيفة من بزوغ فجرها القريب، ولذلك يسعى هذا العدو المتربص إلى أن تكون قدم صندوق النقد الدولي راسخة، من خلال استجابة الحكام والسياسيين لإملاءاته المجحفة؛ منها التفويت في المؤسسات العمومية، ورفع الدعم عن المحروقات، وتقليص نسبة الأجور في الوظائف العمومية، وهو ما سار فيه بكل دقة كل من تولى السلطة في تونس منذ سنة 2011، من حكومة الترويكا الجماعية إلى حكومة الرئيس الفردية، وكلهم في العمالة سواء. من جهة أخرى، يناور الغرب الكافر بربط مصائر الناس بنهجه الاقتصادي فالربا كما تصيب نيرانه الدولة لا بد أيضا أن يكتوي بناره عموم الناس، إذ حسب بعض الدراسات الاقتصادية فإن كل تونسي مدين للغرب بما قيمته آلاف الدولارات منذ ولادته، والدين يزيد بمرور الزمن.
هل نجح الغرب في تحقيق غاياته؟
لقد كانت تكلفة دخول جحافل الغرب الكافر إلى بلاد المسلمين باهظة جدا، وهو ما يتحمل وزره كل من أدلى لهم حبلا أو بذل لهم جهدا معاونة أو مباشرة، ويكفي أن تونس الزيتونة قد أصبحت قبلة لمخططات الأوروبيين للاستحواذ على البلاد المجاورة ليبيا والجزائر، بعد أن كانت بوابة للفتوحات الإسلامية، بل قد لا نخطئ حين نقول إن القارة الأفريقية اليوم قد سميت بأبرز ما فيها وهي إفريقية أي تونس اليوم، ورغم كل ذلك لم ينجح في تحقيق غاياته لأن الأمة الإسلامية تكافحه على جميع الصعد، وصعيده زلق بالتأكيد، وكما لم يهنأ له بال في فلسطين فإن تونس كانت أول من انتفض وطالب الناس فيها بـ"إسقاط النظام" بعد أن خيل للغرب الكافر أن المارد نام، كما ظن أن الأحزاب السياسية دجنت جميعها، حتى خرج له حزب التحرير يكسر الطوق الأمني يوجه ويرشد ويكشف العملاء ومخططات الذئاب الغربية. وكما على الحكام وزر وذنب، فإن للأقوياء فينا من الوجهاء والخبراء ورجال الأعمال أجر عظيم، لو كانوا حجر عثرة أمام مشاريع الغرب الكافر لاختطاف تونس من سياقها العقدي الإسلامي وانتزاعها من أسباب قوتها الفكرية والسياسية والاقتصادية.
بقلم: الأستاذ محمد السحباني
رأيك في الموضوع