تُثار في كل سنة قضية الاحتفال بمولد سيدنا محمد e؛ هل حلال أم حرام؟
ويستمر هذا الخلاف ولعله يتطور في ميادين وصيوانات الاحتفال بالمولد إلى الضرب بالأيدي وسط محلات بيع الحلويات والأناشيد وحلقات رقص الدراويش وصور شيوخ الطرق الصوفية المعلقة ليأخذ الاحتفال بمولد سيدنا محمد e طابع الخرافات! وهكذا تغيرت ذكرى الاحتفال بمولد قائد البشرية محمد e الهادي الصادق الأمين الذي بُعث رحمة للعالمين ودعوته لتطبيق الإسلام واتباع هداه، إلى مناسبة بعيدة عن شرع الله تعالى وعن منهج رسول الله e. وهذه الاحتفالات بالنسبة للكثيرين نفحة جميلة يتذكر فيها المسلمون حبهم لرسول الله e، يتدارسون صفاته وشمائله وسنته e، ويتذكرون فيه شوقهم لرؤيته ويتحسرون على ضياع أمته e، خير أمة أخرجت للناس، التي أصبحت في ذيل الأمم. فهذه المناسبة العظيمة لا تتوقف عند مولد سيدنا محمد e ووفاته في الثاني عشر من ربيع الأول بل هي أيضاً ذكرى مولد دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، دولة رسول الله e، التي جعل سيدنا عمر بن الخطاب والصحابة رضوان الله عليهم جميعا تأريخ المسلمين يبدأ في يوم إقامتها بهجرة رسول الله e من مكة المكرمة؛ وذلك دلالة على أهمية هذا الحدث العظيم في تاريخ البشرية، وصدق الفاروق حيث قال: "ذاك يوم نصر الله فيه الحق وأزهق الباطل".
ولقد لعب الغزو الثقافي الغربي بعد أن هُدمت دولة الإسلام في 1924م، دوراً كبيراً في تغييب مفهوم فرضية إقامة الخلافة وربط حياة المسلمين بتاريخ دولتهم العظيمة. وبالإضافة إلى استعباد الاستعمار الغربي الفكري لعقول المسلمين، فأنظمتهم أيضا تستبيحهم وتُمكن للاستعمار بغياب دولة المسلمين وحاكمهم الذي يحميهم ويرعاهم. حتى أصبح المسلمون ينظرون إلى إسلامهم نظرة غربية ويتحاكمون إلى الطواغيت بعفوية! حتى إن احتفالهم بمولد رسول الله e أصبح احتفالا ذا طابع غربي سطحي كالاحتفالات الوثنية والوطنية وبدلاً عن إيجاد الحلول الجذرية لقضاياهم، قلدوا الكفار الذين اخترعوا أعياداً لتجميل وجه الرأسمالية القبيح حتى جعلوا للأمراض أعيادا وللشواذ أعيادا!
لتمر ذكرى مولد أعظم رسول للبشرية سيدنا محمد خاتم الأنبياء e ولتمر ذكرى مولد أعظم دولة في التاريخ بصمت لا يليق بالحدث بينما ترتفع الأصوات التي تتمادى في حرف المسلمين عن طريق ومنهج رسول الله e وتجعل من الإسلام مجرد دين كهنوتي يُحصر في الاحتفالات الشكلية ولا ترتفع أصوات المسلمين بالمطالبات السياسية الجدية بإقامة دولة رسول الله e ش وتطبيق الشرع لخط تاريخ مشرف للبشرية لتأخذ الأمة الإسلامية مكانها الطبيعي في ريادة الأمم ونهضة البشرية.
فبماذا يحتفل المسلمون اليوم؟ أيحتفلون بالمعنى الحقيقي للمولد النبوي؟! هل يحتفلون باتباعهم للقرآن والسنة والسير على خطا الحبيب e بتطبيقه كاملا في دولة واحدة تجمع شملهم وتوحدهم؟!
هل يحتفلون بانعتاقهم من التبعية للاستعمار الغربي ونقض اتفاقياتهم المشؤومة التي تخالف الشرع؟! وهل نجحت ثوراتهم بجعل التغيير على طريقة رسول الله e بتنصيب خليفة واحد للمسلمين يحكمهم في دولة واحدة بالدستور الإسلامي الذي مواده مستنبطة من المصادر التشريعية المعتبرة فقط بدون تلوث الأفكار الغربية والأجندات الاستعمارية له؟!
هل يحتفلون بانتصارهم وتحرير أراضيهم وإزالة الحدود والسدود وإنقاذ إخوانهم من براثن أعدائهم؟
هل يحتفلون برضوان الله تعالى بتحكيم شرعه؟ هل يستحقون شفاعة نبيهم وحبيبهم محمد e؟
هذه هي القضايا المصيرية التي يجب أن تُثار وهذه هي المطالب التي يجب أن تُحقق.
ويا ليتنا نستطيع المقارنة بين حكم الإسلام وحكم الكفر، فالخلافة التي طبقت حكم الإسلام لقرون عديدة نهضت بالبشرية في شتى مفاصل الحياة التعليمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية وعاش العالم في هناء ورفاهية وارتقاء في الفكر والقيم والأخلاق، ومدحها أبناء الغرب نفسه: "إننا مدينون لكم معشر العرب، وأنتم الدائنون، يرجع الناس أصول مدنيتنا إلى المدنيتين اليونانية والرومانية، مع أن آثارهما كانت في زوايا النسيان زمن العصور المظلمة، ولو لم يقدر لهما أن تتناولهما أيدي العرب لأصابهما الوهن والاضمحلال". (المؤرخ الأمريكي "آرثر"). وقال الكاتب الإنجليزي برناردشو في كتابه "محمد": (إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة - يعني أوروبا).
واليوم الرأسماليون العلمانيون ومن سار على خطاهم هم الأعداء.
فلا عجب أن يشوه الإعلام الفاسد التابع للنظام في بلاد المسلمين صورة الإسلام ومن يعملون لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة بتهم (الإرهاب والتطرف) ولا عجب أن يبرز غير المهتمين بالسياسة من المتصوفة الدراويش والمعتدلين والمنضبعين بثقافة الغرب الكافر المنبهرين بقذاراته، فيُظهر ذكرى المولد وذكرى إقامة الخلافة مجرد حدث مشاعري سيمر ويُنسى. أما نحن فلا ننسى ولا نرتاح وندعو ونعمل ونذكر ونستنهض جميع المسلمين لجعل هذا اليوم المبارك منطلقاً لعملهم الجاد لإقامة دولتهم ونصرة الإسلام باتباع طريقة رسول الله e لتغيير واقع الأمة المزري بدون تنازل كما فعل سيدنا محمد e. هكذا يكون الاحتفال بمولد رسولنا خاتم الأنبياء والمرسلين احتفالاً حقيقياً يحقق تغييراً ملموساً ويأخذ بالناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾ [المعارج: 5-7].
"مَا مَدَحْتُ مُحَمَّداً بِمَقَالَتِى *** وَلٰكِنْ مَدَحْتُ مَقَالَتِى بِمُحَمَّدٍ" (حسان بن ثابت رضي الله عنه)
فداك أبي وأمي يا حبيبي يا رسول الله
بقلم: الأستاذة غادة محمد حمدي – ولاية السودان
رأيك في الموضوع