بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، قاصم الجبارين ومذل الطغاة المتكبرين، وجاعل العزة للمؤمنين ما استمسكوا بشرعه وهدي نبيه ﷺ، وبعد:
- قبل مائة عام حقق الكافر المستعمر أعظم انتصار على المسلمين حين أسقط الخلافة، وما كان له ذلك لولا خيانة فئة مارقة من خونة العرب والترك.
- وبإسقاط الخلافة استُعمرت بلاد المسلمين، وتعرضت الشعوب الإسلامية على مدار مائة عام لحروب شرسة، حروب إبادة جماعية وتطهير عرقي، وتدمير للمدن والقرى، وتشريد لأهلها، ونهب لثرواتها، حروب وحشية بلا قيم ولا أخلاق.
- كما تعرضت لأشرس الحروب الفكرية لسلخها عن دينها وللحيلولة دون نهضتها، وعودة خلافتها.
- وبهدمها عُطل شرع الله، ومزقت البلاد إلى كيانات هزيلة وخنجر مسموم في صدر الأمة تحول دون وحدتها ونهضتها، وأصبحت دولهم رأس حربة وأداة قذرة للكافر المستعمر في حربه على الإسلام وأهله.
- بغياب الخلافة فقدت الأمة الإمام الجنة الذي تتقي به وتقاتل من ورائه فتجرأت عليها الأمم وأراذل الشعوب، فتجرع المسلمون كأس الذل والهوان، واستبيحوا في كل شيء.
- ولولا رحمة من الله، وعقيدة كامنة في أعماق المسلمين لفنيت أمة الإسلام وأصبحت خبرا بعد عين.
لقد استعصت الأمة على أعدائها بعقيدتها؛ سر حياتها ومكمن حيويتها، ولن تلبث أن تعود خير أمة أخرجت للناس ما استمسكت بعقيدتها وأعادت خلافتها.وسيكون ذلك إن شاء الله قريبا.
أيها المسلمون: إن عودة الخلافة قضية عقائدية بها يعز الإسلام ويظهر دين الله على سائر الأديان. بها يوحد الله، ويحكم شرعه، ويحمل الإسلام رسالة هدى ورحمة للعالمين. بها تصان الدماء والأعراض والأموال وتطهر المقدسات من دنس الكفار، ويعيش الناس؛ مؤمنهم وكافرهم، في ظلها حياة آمنة مطمئنة.
أيها المسلمون: لقد قرر الشرع الحكيم قاعدة لا تتخلف ألا وهي: ما آمن الناس بالله وحكموا شرعه إلا عمهم الأمن، وفاض عليهم الخير والرزق مباركا، وما فارقوا شرع الله وحكموا أهواءهم إلا أخذهم الله بالعذاب وأذاقهم الخزي وضنك العيش، وسلط عليهم الطغاة الجبارين فأذاقوهم الويلات وأوردوهم موارد الهلاك، وما ينتظرهم عند الله أشد خزيا وندامة.
- قال سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وقال جل من قائل: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، وقال سبحانه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾. وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾. وقال الحبيب ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
أيها المسلمون: إن عودة الخلافة التي تعبّد الناس لله خالق الكون والإنسان والحياة هي قضية عقائدية في صلب العقيدة الإسلامية، فهي وحدها التي تجسد الحاكمية لله وحده، وتزيل حاكمية البشر، وتعطي أحكام الشرع صفة الإلزام، فتصبح قوانين ملزمة، وهي التي تجعل السيادة لله وحده، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
وعلى ضوء ذلك تتقرر الحقيقة الشرعية أن إقامة الخلافة بمبايعة خليفة للمسلمين، يحكم بشرع الله ويرفع لواء الجهاد هي من أعظم الفروض، بل تاج الفروض.
- واستزادة في الأدلة والبيان نستعرض بعض الأدلة الشرعية وبإيجاز شديد:
- قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ ولا يوجب الشارع طاعة من لا وجود له، فيجب على المسلمين إيجاد الخليفة، الذي تجب طاعته.
- وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾، والحكم بالشرع يحتم وجوب وجود الخليفة.
- وقال ﷺ: «مَن خَلَعَ يَداً مِن طَاعَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيَامَةِ لا حُجَّةَ له، وَمَن مَاتَ وَليسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وهذا يوجب وجود بيعة في عنق كل مسلم وإلا كانت ميتتهم ميتة جاهلية، وبالتالي يجب وجود الخليفة الذي بوجوده توجد البيعة الواجبة في الأعناق.
- وقال ﷺ: «كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وسَيَكونُ خُلَفاءُ فَيَكْثُرُونَ» قالوا: فَما تَأْمُرُنا؟ قالَ: «فُوا ببَيْعَةِ الأوَّلِ فالأوَّلِ، أعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعاهُمْ»، وهذا بيان من رسول الله بأنه لا يكون من بعده إلا خلفاء يجب مبايعتهم ويجب الوفاء ببيعتهم.
- وقال ﷺ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُم». وتأمير خليفة للمسلمين يرعاهم جميعا، ويحكم فيهم شرع الله أوجب وأعظم من تأمير أمير سفر.
- وقال ﷺ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» وهذا يدلل على:
أولا: وجوب وحدة الأمة التي من أجلها أجاز المشرع قتل خليفة مصان الدم حفاظا على وحدتها.
ثانيا: الخليفة هو الذي يبايع على كتاب الله وسنة رسوله ليس غير.
ثالثا: إن أمر المشرع بقتل الخليفة المبايَع، وبالتالي قتل من ينتصر له من مبايعيه، يبين عظم وجوب وجود الخليفة، ووحدة الخلافة.
- أما الدليل من الإجماع فهو أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإمهال أهل الشورى الستة ثلاث ليال لمبايعة خليفة، وبقتل المخالف بعد ثلاث، وكان ذلك على مسمع من الصحابة، وإقرار منهم بحرمة المبيت فوق ثلاث بلا خليفة.
- ثم إن القاعدة الشرعية: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" تجعل من أوجب الواجبات إيجاد الخليفة الذي لا يتم تحكيم الشرع إلا به.
- ونختم بقول لخليفة المسلمين الفاروق رضي الله عنه: "إنه لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم".
أيها المسلمون: لقد زرع الكافر المستعمر وعملاؤه في عقول المسلمين أن المسلمين ضعاف وأن قواهم المادية غير قادرة على إقامة الخلافة ومواجهة أعدائها، وأن بلادهم الممزقة مع الفساد المستشري في الحكام والشعوب يجعلهم غير مؤهلين لإقامة الخلافة. وهذا تلبيس على المسلمين لإلقاء الوهن واليأس في نفوسهم ولإقعادهم عن هذا الفرض العظيم؛ تلبيسا أنساهم قول الله سبحانه: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
أنساهم وعد الله بالاستخلاف، حيث قال من عز وقضى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾.
أنساهم بشارة نبيهم بأنه ستكون خلافة راشدة بعد الملك الجبري، ملك القهر والجبروت، والقتل والتنكيل، ملك الحديد والنار، حيث قال: «ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ».
- نعم إن الإعداد المادي مَطلوب وفي أقصى ما نستطيع، ولكن ليعلم الجميع أن سبب النصر أنه من عند الله حصرا، قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، وأن القوة المادية لن تأتي بنصر إذا تخلى رب المادة وخالقها عنا. فرضا الله أولا وآخرا ثم العدة المستطاعة. وأنتم أيها المسلمون أهل لذلك ما استمسكتم بحبل الله ورضاه؛ فأنتم أشرف الأمم، أنتم الأمة الوسط، خير أمة أخرجت للناس، فثقوا بالله وانصروا دينكم وأقيموها خلافة على منهاج النبوة ينصركم الله ويثبت أقدامكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من سار على دربه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
الشيخ سعيد رضوان – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع