يظن أكثر الناس أن رجل الدولة هو الحاكم أو من يباشر الحكم في الدولة، فيطلقون هذا الوصف على رئيس الدولة والوزراء وأمثالهم، ويعتبرون أن غير هؤلاء لا يتمتعون بوصف رجل الدولة. ويصنفون الناس إلى صنفين: رجل الدولة، وابن الشعب، ويدخلون جميع الموظفين والمستخدمين في الدولة في الصنف الثاني...
إن رجل الدولة هو القائد السياسي المبدع، وهو كل رجل يتمتع بعقلية الحكم، وهو يستطيع إدارة شؤون الدولة ومعالجة المشاكل، والتحكم في العلاقات الخاصة والعامة. هذا هو رجل الدولة وهو قد يوجد بين الناس ولا يكون حاكماً ولا يمارس شيئاً من أعمال الحكم.
والمسلمون حين كانوا يطبقون الإسلام ويتثقفون به أنجبوا الآلاف ممن يتمتعون بوصف رجل الدولة، سواء منهم من كانوا في الحكم كعمر وعلي والمعتصم وصلاح الدين ومحمد الفاتح، أو من ظلوا من أفراد الرعية كابن عباس، والأحنف بن قيس، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، لأنهم كانوا جميعاً يصدرون عن عقيدة الإسلام، ويسلكون الطريق السياسي، ويتمتعون بالإحساس بأنهم مسؤولون عن جميع الناس لهدايتهم وتبليغهم دعوة الإسلام، وتطبيق الإسلام عليهم، عدا عن المسؤولية في الداخل. فسمعنا عمر بن الخطاب يقول: "لو أن دابة بسواد العراق عثرت لخشيت أن يسألني الله عنها لِمَ لَمْ أمهد لها الطريق" والمعتصم تصله صرخة من مسلمة بأرض الروم تقول (وامعتصماه) فيخف لنجدتها ويجرد جيشاً قاده بنفسه وأوغل فاتحاً في بلاد الروم حتى احتل مسقط رأس إمبراطورهم. وأحمد بن حنبل يتعرض للضرب والتضييق حتى يقول بخلق القرآن فيؤثر الضرب والسجن على القول بهذا القول كي لا يضل به المسلمون، فمثل هذا الإحساس بالمسؤولية شرط لازم في رجل الدولة.
وأما اليوم فالمسلمون مصابون بأمراض عديدة ليس أهونها وأقلها شأناً افتقادهم لرجل الدولة، وفي غياب رجل الدولة في الأمة حالياً ظهر هؤلاء الحكام والمتنفذون وهؤلاء جميعهم لا يتمتعون بوصف رجل الدولة، ولا بوجه من الوجوه، فهم لا يملكون القدرة على التفكير والتخطيط وقضاء مصالح الأمة، فيلقون كل ذلك على عاتق الدول الكبرى لتتولى عنهم هذه الأمور، ويمكنونها من التصرف في مقدرات بلادهم، حتى صار هؤلاء الحكام كالموظفين والأجراء، وفي ظل هذه الأوضاع أخذت الدول الكبرى تنشر أفكارها الرأسمالية والاشتراكية، والوطنية والقومية، وجعلوا المصالح تتحكم في العلاقات فاختلط الحابل بالنابل، وصرت تعرف منهم وتنكر، فزالت الأصالة والعراقة في التفكير والحكم، وذر قرن التقليد شأن العاجزين والضعفاء، حتى تحقق قول الرسول الكريم ﷺ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ؛ وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي الطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» فلم يعد الحكام وكثير من الناس يصدرون عن عقيدة الإسلام في التفكير والسلوك والمعالجات، وعكفوا على الأفكار الغربية، وقرأوا أفكار الحكم لدى الدول الغالبة، واتخذوا كتاب الأمير ميثاقاً، ومكيافيلي إماماً، وراحوا يرددون ما قرأوه ترديداً دون إدراك بأن مثل هذه الأفكار إن صلحت في مجتمع رأسمالي أو اشتراكي فهي لا تصلح في الأمة الإسلامية. وصدق فيهم قول رسول الله ﷺ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَات، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
من كتاب أفكار سياسية لحزب التحرير
رأيك في الموضوع