لم يعرف المسلمون مصطلح الوطنية كمصطلح سياسي، فهو مصطلح وافد ودخيل على ثقافة الإسلام وفقه الإسلام، فلا يوجد في كل كتب الفقه باب فقهي يتحدث عن أحكام شرعية للوطنية أو للقومية، ولم يرد في نصوص الشرع ولا في لغة العرب ما يبين مفهوم الوطنية. فإن معنى وطن لغة: سكن وأقام، ويقال وطَن فلانٌ بالمكانِ: أقام به، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطَناً. وبإنعام النظر في هذا المعنى نجد أن لا علاقة له في التشريعات والقوانين وتحديد السياسات المتبعة لتحقيق مصالح الناس وطموحات المواطنين التي تتبعها الدولة القطرية.
لقد شهدنا تغيير التشريعات وتعديلها في حياتنا الطبيعية، وفي أعقاب الثورات أو أعقاب سقوط المبادئ. فالشعوب الأوروبية التي ثارت على ظلم الحق الإلهي في الحكم الناتج عن تحالف الكنيسة مع الملوك، أوجدت نظاما سياسيا جديدا يقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة وما تولد منها من منظومة قيمية، وهذا النظام السياسي لا علاقة له بالموطن الجغرافي من جبال وسهول وبحار، بل هو آت من عقول وأفكار الناس وما توافقوا عليه من تحديدهم للمصالح. كما أن هذا يكون في حق أمة ثارت على دينها المحرّف وحاربته فكيف يكون في أمة الإسلام! وكذلك الثورة البلشفية أوجدت نظاما شيوعيا مأخوذا من عقول الناس، طبق فترة زمنية ثم جرى التخلص منه بعد ظهور فساد الفكرة الشيوعية وعجزها، واستبدال منظومة أخرى وجملة مصالح أخرى به مناقضة لما سبق، بعيدا عن الجغرافيا والوطن.
ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن المصلحة الوطنية مصطلح لا وجود له في الواقع ومغلوط، وتم نقله إلى مدلول ابتدع لغاية بعيدة جدا عن الوطن والمسكن عند شعوب ثارت على دينها ونظامها السياسي، وهو قابل للتغيير باختلاف حدود الدولة نتيجة اختلاف المصالح أو اتفاقها، وحدة وانقساما، باتفاق أم بحرب أهلية، كما يجري الآن في مناطق النزاع بين روسيا وأوكرانيا، وبين الصين وتايوان، التي كانت ضمن وطن واحد!
وإذا نظرنا في استخدامات السياسيين وصانعي القرار لمفهوم المصلحة الوطنية نجد أنفسنا أمام تناقض وارتباك في استخدام هذا المصطلح، ولا يزول هذا الغموض أو التناقض إلا على ضوء الازدواجية في المعايير وفي التعامل مع مفهوم المصلحة الوطنية. وعليه يمكننا أن نقول إن مفهوم المصلحة الوطنية يتلخص بأهداف الدولة وطموحاتها سواء أكانت اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية، وبتحديد هذه الأهداف ترسم السياسات الداخلية والعلاقات الدولية، حيث تسعى كل دولة لتحقيق المصلحة الوطنية الخاصة لها بوصفها إقليماً جغرافياً محدداً بحدود سياسية دولية، مستمدة تشريعاتها من واقع الدولة وإمكاناتها وتطلعاتها، فالمصلحة الوطنية تجسيد للمدرسة الواقعية في أضيق إطار سياسي.
وعند دراستنا لمصطلح المصلحة الوطنية سياسيا نجد أنه مصطلح رأسمالي لا يقيم وزنا لغير المصلحة المادية، تم زرعه في بلاد المسلمين بمكر استعماري بعد أن تم تمزيقها لدويلات هزيلة، على أيدي المستعمرين الحاقدين، واستبدال رابطة وطنية عصبية منحطة لا تستند لأدنى مستوى من الفكر برابطة الدين، وتنصيب قيادة سياسية موالية للغرب معادية لشعوبها.
وعند وضع المصطلح في ميزان الشرع نجده على قدر عظيم من الخطورة على دين المسلمين وحياتهم:
أولا: خطر عقائدي فإن عقيدة الإسلام تجعل إعطاء الحقوق وتحديد الواجبات لكل من يحمل تابعية الدولة الإسلامية يقوم على أساس الوحي استجابة لأمر الله، فمن حدد الحقوق للعباد هو الله ومن حدد الواجبات والتكاليف هو الله وحده، وليس على أساس الانتماء للتراب والطين (الوطن)، فالحقوق لا تختلف باختلاف الأوطان ولا تسقط التكاليف باختلاف الجغرافيا، فما هو حق للمسلم وما هو واجب عليه ثبت بدليل شرعي وليس بحد جغرافي وسياسي.
ثانيا: خطر منهجي في عقلية المسلم؛ إن منهج المسلم في تفكيره وفي اتخاذ قراره يقوم على الوقوف على الحكم الشرعي المستنبط من الدليل الشرعي والتقيد به، فالأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، والنظرة الوطنية هي تغييب للحكم الشرعي والدوران حول ما يفرضه الواقع الجغرافي والسياسي بعيدا عن الحلال والحرام وتعظيم أمر الله، وهذا مدخل لهدم حكم رب العالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾.
ومن القواعد الأساسية في الفكر الإسلامي أن دين الله جاء لتحقيق مصالح العباد، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، فمصالح المسلمين هي في كونهم أمة واحدة لا تفرقها الوطنيات.
ومن القواعد الأساسية أيضاً أن تحديد المصالح يكون من قبل الشرع لا من العقول، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فأينما وجد الشرع وجدت المصلحة وليس العكس، فلا يتهم دين الله بتضييع المصالح.
ثالثا: خطر مبدئي؛ فالمبدأ عقيدة تُحمى، وإله يُعبد، ونظام يطبق، ورسالة تحمل، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾. فالوطنية تنقض العقيدة وتعطل الشرع وتضيع الرسالة.
رابعا: أخطار سياسية؛ إن تعدد الكيانات السياسية يحتم اختلاف المصالح وتناقضها، ما يفرق المسلمين، وهو منكر كبير وإثم عظيم، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. وإن الوطنية من العصبية النتنة، قال ﷺ: «دَعُوهَا، فإنَّهَا مُنْتِنَةٌ» وقال ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ».
والعصبية الوطنية رأس كل مفسدة وجماع كل شر، حرمتها حرمة مشددة، قال ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللهَ اللهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّاراً؟». وقال ﷺ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ. إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ».
إن الوطنية النتنة أثمرت في واقعنا ثمرة الزقوم نتجرعها في كل وقت وحين، نرى خير أمة غثاء كغثاء السيل، فلا سيادة ولا قرار ولا عزة ولا كرامة، نرى ثروات منهوبة، وفقرا وجوعا وحرمانا، دماء مسفوكة ومقدسات مستباحة وحرمات منتهكة، ولا نحرك ساكنا، أصبحت الإبادة الوحشية في غزة قضية غزية وقزمناها لقضية فصائلية، والقدس قضية فلسطينية، والله تعالى يقول: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ ويقول سبحانه: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ويقول الرسول ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ». ويقول أيضا: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِماً فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ».
لقد أصبحت المصلحة الوطنية حجة للخذلان وغطاء للعملاء وتبرير للخيانة، وأصبح التقصير في نصرة أهل غزة ونحن نشهد مهلك الأطفال والشيوخ والمرضى وقتل الأسرى وتعذيبهم، وتدمير الشجر والحجر وكل أسباب الحياة، كل هذا التقصير في ظل وطنية بغيضة. لا والله ما كانت مصلحة وطنية، بل مصلحة الكراسي والعروش، مصلحة أنظمة عميلة باعت دماء المسلمين وأعراضهم ومقدساتهم بثمن بخس، ثمن خيانة الأنظمة العميلة، صنائع الاستعمار.
بقلم: الأستاذ سعيد رضوان أبو عواد (أبو عماد)
رأيك في الموضوع