وأما السلطة السياسية فالدولة كيان تنفيذي للحكم بما أنزل الله، والحكم والسلطان والملك معناه تنفيذ الأحكام وقدرة الملك، وإن أول ما تقوم به الدولة الإسلامية: السلطة، ويمكن تفكيكها إلى ستِّ مسائل: 1) طريقة نشوء الدولة، 2) طريقة أخذ السلطة، 3) طبيعة السلطة، 4) صلاحيات السلطة، 5) واجبات السلطة. 6) موقف الرعية حين إخلال السلطة بما سبق.
فأما طريقة نشوء الدولة وأخذ السلطة، فإن إقامة الدولة ليست مجرد استلام الحكم أو القهر عليه، إذ لا بد أن يسبقه تغيير المفاهيم والمقاييس والقناعات عند الأمة حتى يتغير الرأي العام عند القادرين على تسليم الحكم ليتم بناء على تلك المفاهيم، فأخذ السلطة إنما هو طريقة لجعل الحياة حياة إسلامية، أي جعل العلاقات القائمة بين الناس علاقات إسلامية، ولا يجوز أن ينظر إلى الحكم على أنه أكثر من طريقة فقط ليس أكثر، فالقضية ليست العمل فقط لتحطيم رجال الحكم، بل القضية هي جعل أفكار الإسلام طاغية في المجتمع حتى يجري هذا التحطيم لرجال الحكم واسترجاع السلطان منهم، عن طريق طغيان هذه الأفكار. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الدولة تنشأ بنشوء أفكار جديدة تقوم عليها، ويتحول السلطان فيها بتحول هذه الأفكار، لأن الأفكار إذا أصبحت مفاهيم، أثّرت في سلوك الإنسان وجعلت سلوكه يسير وفق هذه المفاهيم، فتتغير نظرته إلى الحياة، وتبعاً لتغيرها تتغير نظرته إلى المصالح؛ والسلطة إنما هي رعاية هذه المصالح والإشراف عليها وتسييرها، ولا تكون إلا للفئة الأقوى من فئات المجتمع، فإذا كان الناس في منطقة متفقين في نظرتهم إلى المصالح، أقاموا هم من يتولى رعاية شؤونهم، أي أقاموا هم السلطة التي تسيّر مصالحهم أو انقادوا لمن أقاموا أنفسهم في السلطة لتسيير مصالحهم، ومن هنا يأتي الحكم من الأمة قطعاً، إما باختيارها الفعلي، أو بسكوتها عن قيامه، والسكوت نوع من أنواع الاختيار. وأما حين اختلافهم فإن الحكم سيستقر للفئة الأقوى زمناً ثم لا يلبث أن ينهار، لذا كان على من يسعى لإقامة الخلافة أن يقيمها طبيعيا في الأمة بتغيير مفاهيم الأمة وأن لا ينظر إليها على أنها استلام حكم وقهر عليه، أو تطبيق قوانين وحمل الناس عليها، فالعمل يجب أن ينصبّ على استئناف الحياة الإسلامية وهو ما لا يتم إلا بتغيير القناعات، واستلام الحكم طريقة لإقامة السلطان يسبقها عمل كثير، وأخذ السلطة لا يكون إلا بالبيعة عن رضا واختيار.
وأما طبيعة السلطة، فالسلطة في الإسلام سياسية رعوية، وليست قوة غاشمة، جاء في طبقات ابن سعد أن عمير بن سعد رضي الله عنه، وهو الذي ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمص، كان يقول: "ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق فحائط الإسلام العدل وبابه الحق، ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل"، وكان عمر رضي الله عنه إذا بعث عمّاله إلى الأمصار قال لهم: "إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة، فلا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم فتظلموهم".
وأما صلاحيات السلطة فهي: 1) تولي رعاية شئون الناس وتحمل مسئولية سياسة الدولة الداخلية والخارجية معاً. 2) وحق استعمال القوة، 3) صلاحية مباشرة رعاية الشئون بالفعل 4) صلاحية تبني الأحكام وتنفيذها 5) صلاحية إقامة أجهزة الدولة في الحكم والإدارة وتعيين وعزل الموظفين كالولاة والمعاونين والقضاة والمحتسبين، وعلى الخليفة مداومة تحري أعمالهم، ومسئولية أعمالهم تقع على الخليفة ومجلس الشورى. وبعض العمال مسئولون أمام الخليفة دون مجلس الشورى 6) تبني الأحكام الشرعية التي توضع بموجبها ميزانية الدولة وتقرير فصول الميزانية والمبالغ التي تلزم لكل جهة، سواء أكان ذلك متعلقاً بالواردات أم بالنفقات.
وأما واجبات السلطان فقوامها: 1) الشرعية في أخذ السلطان من الأمة، 2) وتولي رعاية شئون الناس، 3) والقدرة على إظهار الأحكام، 4) وحق استعمال القوة، 5) والقدرة على بسط الأمان، 6) والقدرة على الحكم، أي مباشرة رعاية الشئون بالفعل، وممارسة الواجبات الدينية والسياسية، وأهمها أ- حفظ الدين بنشر العلم، ومحاربة الجهل والبدع، وإقامة السياسة الإعلامية ب- حمل الدعوة، والجهاد في سبيل الله، والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية للدولة، ج- جباية الفيء والصدقات والإدارة المالية للدولة، د- القيام على شعائر الدين كالصلاة والصيام والحج، هـ- الإشراف على إقامة العدل بين الناس، بفصل الأحكام بين المتنازعين، وإقامة الحدود، وتعيين القضاة، والمحتسبين، وقضاة المظالم، وإقامة المحاكم، و- المحافظة على الأمن والنظام العام والاستقرار الداخلي في الدولة، وإقامة الجيش والشرطة، ز- الدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء الخارجيين، ومن ذلك يتفرع إقامة الصناعات الثقيلة، ومراكز الأبحاث، وإقامة الصناعات التي تتعلق بأعيان الملكية العامة كمصانع استخراج المعادن وتنقيتها وصهرها، وكمصانع استخراج النفط وتنقيته، فمن واجبات الدولة أن تقيم مثل هذه المصانع. ح- إقامة أجهزة الدولة، ومؤسساتها، ودواوينها، وأسواقها، وتعيين المعاونين والولاة والموظفين من ذوي القوة والكفاية والأمانة، وتحري أعمالهم، وجعل الحكم مركزيا والإدارة لا مركزية، ط- إشراف الخليفة بنفسه على الأمور العامة، ورعاية مصالح الناس، وإدارة العلاقات مع الرعية - مسلمين وأهل ذمة - من حيث رعايتها، وتنفيذ طلباتها، ورفع الظلامة عنها، وتأمين وسد حاجاتها الأساسية من مأكل وملبس وتطبيب وتعليم، وإدارة مصالحها في شئون العمل والطرق والتطبيب والتعليم والزراعة وما إلى ذلك، ي- الشورى.
لقد حرصنا على تبيين صورة الدولة الحقة حتى يتحرى المسلمون إقامتها ويتبين لهم كذب ادعاء من يقيمها مُخلاًّ بما سبق والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.
رأيك في الموضوع