حين تُنحّي العلمانيةُ القيمَ إبان الحكم على قضية ما فإنها تدخل الإنسان في العبثية، فالمرء العاقل إذ يقوم بفعل ما، فلا بد له من "قصد" من وراء قيامه بهذا الفعل، وهذا القصد هو "القيمة" التي يريد تحقيقها حين قيامه بهذا الفعل، ولذلك كان حتماً أن تكون لكل عمل قيمة يراعي الإنسان تحقيقها حين القيام بالعمل، وإلا كان مجرد عبث. ولا بد للإنسان الناهض أن يصدر عن وجهة نظر في الحياة تحدد له قيما تسوس حياته، وإلا سادت العشوائية المجتمعات (هذه العشوائية التي تمثل أساس الليبرالية)، فتضاربت قيم زيد مع قيم عبيد، ونشأت في المجتمع الخصومات واستحال القضاء، وسادت الفوضى.
هذه العلمانية، تشكل الوجه الثقافي أو الحضاري للحداثة الغربية، أو بمعنى أدق: تعبيرها الحضاري؛ فالديمقراطية وجهها أو تعبيرها السياسي، واقتصاد السوق والرأسمالية وجهها الاقتصادي، والليبرالية نزعتها الفردية.
وأما الليبرالية، فإنها وقعت في تناقض آخر، فهي لا تعترف بمرجعية ليبرالية مقدسة؛ لأنها لو قدست أحد رموزها إلى درجة أن يتحدث بلسانها، أو قدست أحد كتبها إلى درجة أن تعتبره المعبر الوحيد أو الأساسي عنها، لم تصبح ليبرالية، ولأصبحت مذهبا من المذاهب المنغلقة على نفسها، مع اتفاق الليبراليين على أهمية حرية الفرد.
مرجعية الليبرالية هي في هذا الفضاء الواسع من القيم التي تتمحور حول الإنسان، وحرية الإنسان، وكرامة الإنسان، وفردية الإنسان. وتتعدد الليبرالية بتعدد الليبراليين، وكل ليبرالي هو مرجع ليبراليته، وتاريخ الليبرالية مشحون بالتجارب الليبرالية المتنوعة، ومن حاول الإلزام سقط من سجل التراث الليبرالي، فهي فوضى فكرية لا أكثر!
فالليبرالية إذن تتناقض مع العلمانية، في أنها تكرس قيما إنسانية، مع أن العلمانية لا تقف في وجه الليبرالية، إلا إن كان مصدر هذه القيم دينيا أو أخلاقيا، لعداء العلمانية للدين وللأخلاق، فهي تغض الطرف عن القيم التي تقدس حرية الإنسان، والعلمانية إذ تأخذ من الليبرالية فإنها تناقض نفسها بإخضاع المفاهيم العلمانية للقيم الليبرالية، وهي التي آلت على نفسها أن لا تتخذ أيا من القيم أساسا للحكم على الأشياء أو الأفعال، أو الأفكار!
والليبرالية لا تمنع في فلسفتها الذاتية أن يكون مصدر القيمة التي تحقق الحرية والكرامة والحقوق القانونية للإنسان، أن يكون مصدرها دينيا، أو غير ذلك، طالما أنها تحقق هذه القيم، لذلك لا ترى بأسا في أن يكون الليبرالي مسلما أو نصرانيا، طالما هو يحقق هذه القيم.
وهي في هذا لا تؤطر لفلسفة تبين كيفية تحقيق هذه القيم، فمن رأى تحقيقها من خلال قيمٍ أساسها ديني فله ذلك، وهذا فيه تناقض بغيض، وإشكالية ومأزق آخر للعلمانية لا تستطيع أن تحله! فالليبرالية إذ منعت انغلاق نفسها على نفسها، ومنعت نفسها من أن تكون مذهبا منغلقا منضبطا، منعت نفسها من أن تشكل منظومة فكرية متجانسة تسعى إلى إيجاد نمط معين من العيش له مفاهيمه وآلياته وعقيدته، ذلك الكل القائم على أسس مترابطة تحقق للإنسان نمطا معينا من العيش، فما هو شكل الإنسان الذي يعيش تناقضات في قيمه، فمن قيمة أساسها العلمانية - وهي التي تحارب القيم أساسا -، إلى قيمة أساسها الإنسانية - على أساس الحرية المطلقة وما تراه اليوم محققا للحرية قد تكفر به غدا وعليك أن لا تتقيد به وإلا لم تكن حرا! - إلى قيمة أساسها الإسلام، كيف له أن يحقق سعادة وأسس هذه القيم متناقضة، فهو إذ لا يسرق لأن السرقة حرام، يزني لأن الزنا يحقق له الحرية، ويرى منع تدخل الإسلام في نظام حياته إلا أنه لا يسرق لأن السرقة حرام! فيرى منع الإسلام من أن يصوغ قيمه إلا أن بعض قيمه قائمة على أساس الإسلام، كيف سيتجانس تفكير هذا الإنسان ويفضي به إلى السعادة والطمأنينة، بل كيف سيكون إنسانا يحترم عقله؟!!
صحيح إذن أن الليبرالية ليست بدين، لأنها لوث فكري، وتفضي حتما إلى فساد المجتمعات، وفساد النظم القانونية، فكيف لقاض أن يحكم على ليبرالي بجريمة وهذا الليبرالي قام بتلك الجريمة لأن منطلقاته الفكرية لم تر فيها جريمة؟!
إلا أن العلمانية دين، ولبيان ذلك، فإن العلمانية أيديولوجيا، أي مبدأ، فالمبدأ عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، والأيديولوجيا رؤية متماسكة شاملة تنظر للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع ما بشكل خاص، ويدخل فيها المعتقدات والأخلاق، ومن هنا فالعلمانية أيديولوجيا، وتعريف الأيديولوجيا بهذا الشكل يتقاطع مع مفهوم الدين الشامل، إذ إن بعض الأديان حصرت نفسها بجزئيات من هذا التعريف، وبعضها كان شاملا، وتعريف الأيديولوجيا أيضا ليس محل إجماع مما يجعل توصيف العلمانية بالدين أمرا مقبولا، وتفسير الدين بالأيديولوجيا أمرا مقبولا.
فالدين لغة هو السياسة، والدَّيَّانُ السايس، والسياسة رعاية الشئون - الاقتصادية والاجتماعية والقانونية... - وفقا لمنظومة فكرية معينة، فحين تسوس العلمانية المجتمع، وتعطي أفكارا عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، فإنها دين يحكم ويقضي، والدين منظومة الأفكار عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها بخالقها سواء إيجابا أو سلبا لهذه العلاقة، ولا يجوز قصر الدين على العبادة والغيبيات، فحين تقضي العلمانية بأفكار معينة تجعل للإنسان إصدار الأحكام، وتمنع الخالق هذا الحق، فإنها دين، فهي وجهة نظر عن الحياة ونمط معين في العيش، فهي ثقافة معينة، أي أساس لحضارة معينة، وكذلك الدين نمط معين في العيش وثقافة معينة، وحين تقضي العلمانية بأحكام تتناول شئون الحياة فإنها تضع هذه الأحكام مكان نظائرها من الأحكام الصادرة عن الدين، فهي تلغيه وتصادر حقه في إصدار الأحكام وتضع نفسها مكانه مشرعا، فهي دين! إلا أنها تصادر ما تسميه الرأي الآخر، وتمنع الدين من أن يوجد إلا في زوايا المعابد والتكايا وتمنعه من الخروج إلى الشارع والعقول والأفكار، ثم ترمي العلمانيةُ الدينَ بتهمة منع التعددية، ومصادرة حق الغير في التفكير، وتنسل من هذا وهو دينها وديدنها وتتخذ لأجله الحروب وتجتاح الدول!... يتبع
رأيك في الموضوع