فلماذا العداء لليبرالية وللعلمانية إذن؟ لقد تبين لنا في المقالتين السابقتين أن الليبرالية لوثة فكرية، وأنها تناقض نفسها وتناقض العلمانية، وتناقض الديمقراطية، وأنه لا يجتمع من هذه النقائض نظام يرقى بالإنسان. وبالنظرة المتفحصة للعلمانية نجد أيضا أنها تؤطر لنظام حياة على أساس حرب الدين، وتترك التفاصيل للقانونيين والقضاة، يسنون التشريعات كما يحلو لهم، فليس في العلمانية معالجات تفصيلية لمشاكل الإنسان، ليس فيها قوانين عالمية، فلكل بلد علماني خصوصيته، بل في كل بلد قوانين الأمس وقوانين اليوم التي تناقضها، مما يدل على أن العلمانية لم ترق إلى مستوى أن تضع الحلول لمشاكل الإنسان، وهي تخلو أصلا من أصول كلية تعد مرجعا للأحكام التفصيلية على الأفعال، فبالأمس كان الشذوذ جريمة يعاقب عليها القانون العلماني، واليوم يقدسه، وذلك لاختلاف وجهة نظر القانونيين وسياسات الدول، لا لنظام حياة منبثق عن العقيدة العلمانية يضع حلولا تفصيلية للمشاكل المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، ولا لقياس هذه الأفعال بأصول معينة تستنبط من العقيدة العلمانية، وهذه مثلبة عظيمة، إذ إن العلمانية جعلت كل همها محاربة القيم الدينية، والأخلاقية، ولم تهتم بوضع البديل لها، فلسان حالها لسان حال البلطجي الذي يفتش في الأفكار فإن كان أصلها الدين أو الأخلاق حاربها، وإن لم يكن غض الطرف، ولم يهتم بنوع البديل!
ولم ترق العلمانية لأن تكون مذهبا اقتصاديا، فاستعارت المذهب الرأسمالي بعجره وبجره، وجعلت اقتصاد السوق غايتها، ذلك السوق الحر الذي تمثل أمريكا صمام الأمان والنموذج الذي يحتذى به بحسب توماس فريدمان، وفكرة حقوق الإنسان لديهم ليست هي الحقوق الاجتماعية، ولا توفير الحاجات الاجتماعية أو الضرورية للرعية، بل تتمحور في إطار ضرورات الإمبريالية الليبرالية والتجارة العالمية الحرة وتشريع القوانين التي تخدمها كما قال كولن مويرز في كتابه الإمبرياليون الجدد أيديولوجيات الإمبراطورية ص138، فمن وقف في وجه اجتياح الشركات العابرة للقارات والبنوك فتسحقه الحكومة العلمانية الديمقراطية لتفتح أسواقه أمام شركاتها وتغرق بلاده بالديون والحروب والويلات.
كتب "توماس فريدمان"، الصحفي في النيويورك تايمز، المقرب من وزارة الخارجية الأمريكية، أثناء التحضير لحرب الخليج الثانية في 1991 "إن الأيادي الخفية في السوق لا تستطيع العمل بدون قبضة خفية"، "فعلى سبيل المثال لا تستطيع الماكدونالد McDonald العمل بدون مكدونيل دوجلاس McDonnell Douglas، وهو صانع لطائرة F-15. أما القبضة الخفية التي لا تزال تحافظ على تكنولوجيا وادي السيلكون، فهي الجيش، وسلاح الجو والبحرية وقوات المارينز الأمريكية".
وفي سياق توضيحه للعلاقة الاستراتيجية القائمة بين الشركات العملاقة والمهتمين بالشؤون والتصنيع العسكري، يقول فريدمان "إن العولمة تساهم وبشكل فعال في زيادة مساحة الفوائد التي تجنيها الشركات في العالم، وبالتالي فإنه لا سبيل إلا لوجود آلية عسكرية لحماية هذه المصالح، ولهذا السبب فقط عملت المؤسسة العسكرية في الولايات المتحدة على الاحتفاظ بالقدرة على شن الحروب في منطقتين مختلفين من هذا العالم". إن القوى الرأسمالية العالمية تستخدم كلّ الوسائل، بما في ذلك شن الحرب، في سعيها لتحقيق مصالحها وتعظيم أرباحها، تستخدم هذه الدول “اليد الخفية” للاقتصاد و”القبضة الخفية” للجيوش لضمان الأجواء الملائمة لتعزيز مصالح الشركات الرأسمالية العملاقة.
والواقع أن المنظرين العلمانيين والليبراليين والديمقراطيين لم يتنبهوا لحقيقة أن الرأسمالية هي المحرك الوحيد للدول الغربية الاستعمارية، وأنها تسمح لمذاهبهم وأفكارهم العلمانية والديمقراطية والليبرالية بالوجود طالما هي تخدم الرأسمالية، وحين تتعارض معها، فإنها لا تلقي لها بالا، فأمريكا لا تحفل كثيرا بنشر الديمقراطية، أو العلمانية، إلا إن كانت وسيلة لبسط هيمنتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، فها هي مصر مثال حي، ضربت فيه أمريكا عرض الحائط بالديمقراطية وقيمها، وبالعلمانيين ومن لف لفهم ودعمت العسكر ودعمت من يحقق لها مصالحها، وما زال العلمانيون المغفلون يسبحون بحمدها وحمد حضارتها وقيمها صباح مساء، لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها! وهي هي من تضرب بقيم الليبرالية وحقوق الأقليات في أمريكا نفسها إذ تسودها القيم العنصرية، على كافة الصعد، من معاملة الشرطة للسود، إلى سلم الرواتب الذي يفاضل بين الرجل والمرأة، وبين الأبيض واللاتيني والأسود... الخ، فهذه المذاهب لديهم إنما صممت لخدمة القلة، ولتغليف استعمارهم العالمي بغلاف أنظمة يحاربون بها الأديان والحضارات الأخرى، فيستعملونها وقت شاءوا ويغضون الطرف عنها وقتما تعارضت مع قيمهم الرأسمالية، فالواقع أن الغرب ليس فيه علمانية، ولا ليبرالية، ولا ديمقراطية، إنما فيه رأسمالية وحسب.
رأيك في الموضوع