أما نظام الخلافة، فقد انعقد إجماع الأمة وعلماؤها وأئمتها، ومن قبلهم صحابتها، على أنها فرض، لم يشذَّ عن ذلك الإجماع إلا قلة وصفهم الإمامُ القرطبي بأنهم عن الشريعة صُمٌّ، وأدلة أنها فرض في الكتاب والسنة أشد رسوخا من الجبال، وهي كما وصفها الماوردي: أصلٌ استقرت عليه قواعد الملة، وهي رئاسة تامة، وزعامة عامة، وخلافة للنبوة لحراسة الدين وإقامته، وحفظ الحوزة، وإقامة العدل، ورفع الظلم، والقضاء في الخصومات، وسياسة الرعية ورعاية شئونها، والقيام على مصالحها، وحمل الدعوة، وسياسة الدنيا بتطبيق الشريعة، وإقامة حدودها، والائتمار بأوامرها والانتهاء عن نواهيها، والتزام أحكامها، وتطبيق أنظمتها في الحكم والقضاء والإدارة، والاقتصاد، والتعليم والاجتماع، والعقوبات، فالإسلام أسٌّ، والخلافة حارس للدين، ومطبق لأحكامه، فهي الفرض الحافظ للفروض، القائم على حسن تطبيقها في الأرض، وما كان هذا شأنه فإن إقامته لا شك أنها أكثر من مجرد إعلان! وأحكام إقامتها تتعدى أحكام مبايعة جماعة لأميرها، إذ إنها تتعدى تلك الجماعة لتصل إلى كل المسلمين، فبأي شيء تقوم الخلافة وما هي شروطها التي إن تحققت قلنا: هذه هي الخلافة التي ننتظر؟
إن الخلافة تمثل السلطة السياسية، وهي عنصر من عناصر تكوين الدولة الثلاثة وهي: 1- الأمة. 2- الإقليم أو الأرض. 3- السلطة السياسية أو النظام. وفي كل من هذه العناصر شروط لا بد من تحققها؛
فأما الأمة، فإن الإسلام قد جعل السلطان للأمة، وأمرها بتطبيق أحكامه، وبين رسول الله r طريقة ذلك بأن توكل الأمة عنها سلطاناً يقيم فيها الأحكام، فحين أمر الله تعالى الأمة بقوله: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾، فإنه لم يجز لآحاد الرعية القيام بهذا الأمر، وإنما بين لهم أنهم يخوِّلون إماماً منهم يقيمها فيهم، وهذا السلطان إنما يُعطى بالبيعة، ولما كانت الخلافة عقداً فإنها لا تتم إلاّ بعاقد، كالقضاء لا يكون المرء قاضياً إلاّ إذا ولاه أحد القضاء، والخلافة لا يكون أحد خليفةً إلاّ إذا ولاه أحد الخلافة، ومن هنا يتبين أنه لا يكون أحد خليفة إلاّ إذا ولاه المسلمون، ولا يملك صلاحيات الخلافة إلاّ إذا تم عقدها له، ولا يتم هذا العقد إلاّ من عاقدين أحدهما طالب الخلافة والمطلوب لها، والثاني المسلمون أو من له صفة شرعية لتمثيل المسلمين، الذين رضوا به أن يكون خليفة لهم، ولهذا كان لا بد لانعقاد الخلافة من بيعة المسلمين، وعلى هذا فإنه إذا قام متسلط واستولى على الحكم بالقوة فإنه لا يصبح بذلك خليفة ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين، لأنه لم تنعقد له خلافة من قبل المسلمين، ولو أخذ البيعة على الناس بالإكراه والإجبار لا يصبح خليفة ولو بويع، لأن البيعة بالإكراه والإجبار لا تُعتبر ولا تنعقد بها الخلافة، لأنها عقد مراضاة واختيار لا تتم بالإكراه والإجبار، فلا تنعقد إلاّ بالبيعة عن رضا واختيار. وحين نقول أن السلطان للأمة فإن هذا حق للأمة لا يسقط بعدم امتلاكها إياه اليوم، وعدم ممارستها له، فمن لم تعطه الأمة السلطان يكون مغتصِباً له، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.
وأما الإقليم أو الأرض فلا بد من أربعة شروط حتى يصلح لأن يكون نقطة ارتكاز للدولة الإسلامية؛ أحدها: أن يكون سلطان ذلك القطر سلطاناً ذاتياً يستند إلى المسلمين وحدهم لا إلى دولة كافرة أو نفوذ كافر. ثانيها: أن يكون أمان المسلمين في ذلك القطر بأمان الإسلام لا بأمان الكفر، أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج حماية إسلام من قوة المسلمين باعتبارها قوة إسلامية بحتة. وثالثها: أن يبدأ حالاً بمباشرة تطبيق الإسلام كاملاً تطبيقاً انقلابياً شاملاً، وأن يكون متلبساً بحمل الدعوة الإسلامية. ورابعها: أن يكون الخليفة المبايَع مستكمِلاً شروط انعقاد الخلافة وإن لم يكن مستوفياً شروط الأفضلية، لأن العبرة بشروط الانعقاد.
(... يتبع بإذن الله)
رأيك في الموضوع