ظلت القدس وما حولها تمثل قضية جوهرية لكثير من أمم الأرض، وعرفت تلك الأمم الطريق الموصل إليها وسلكته، وحتى لا نغوص في أعماق التاريخ، إلا أنه لا بأس بقطعة منه لعلها تزيل الغشاوة عن بعض الأعين فتعتبر، وهل التاريخ إلا للاعتبار!
أدرك المسلمون الأوائل قضيتهم في القدس وما حولها، على أنها قضية عقدية إيمانية حضارية، حين أنزل الله فيها قرآنه.
هذا الوعي حملهم على التفكير بالطريقة التي يمكن أن تحقق الغاية، فاتجهوا إلى تجييش الجيوش وعلى رأسها خيرة الصحابة والفاتحين ورايات الجهاد تعلو هاماتهم، فسلكوا الطريق ووصلوا.
وظل الغرب الصليبي بعد أن فقد القدس وما حولها يدرك قضيته فيها، بأنها قضية عقدية إيمانية حضارية، فظل يتحين الفرص حتى لاحت له مستغلا ضعف المسلمين وتفككهم، فوجه إليها جيوشه وعلى رأسها باباواتهم وملوكهم، فسلكوا الطريق ووصلوا إليها في الحروب الصليبية عام 1099.
وظل المسلمون إبان الغزوة الصليبية الدامية والطويلة يدركون قضيتهم في فلسطين، فلم يساوموا ولم يتنازلوا ولم يعترفوا بالاحتلال الصليبي، وظلوا يسدون الثغرات ويعدون العدة ويقوون الهمم والعزائم ويتخلصون من عوامل الضعف حتى جاءتهم الفرصة، فوجهوا جيوشهم بإمرة صلاح الدين ورايات الجهاد تعلو هاماتهم، وسلكوا الطريق ووصلوا، ودخلوا القدس عام 1199. ثم تابعوا جهادهم حتى طهروا بلادهم كلها من الصليبيين كلهم وجعلوهم أثراً بعد عين.
وظل الغرب الصليبي يدرك قضيته في فلسطين ويتحين الفرص فجاءت سقطة الرجل المريض بدخوله الحرب العالمية الأولى لتعطي الغرب الصليبي الفرصة الذهبية، فجيش جيوشه بزعامة قادته ووجهها إلى القدس، وما إن وقف الجنرال اللنبي على مشارف فلسطين على نهر الأردن حتى أعلنها مدوية: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ليؤكد أن قضية الصليبيين عبر التاريخ واحدة، وأن طريقهم إلى القدس واحدة.
ولإدراك الغرب الصليبي لقضيته في القدس وما حولها، فإنه يعمل على أن تكون هيمنته الحالية - ولو عبر كيان يهود - دائمية وأبدية، وقد عبر عنها قبل أيام أحد الصليبيين الصغار جوزيف أبو فاضل حين قال: "نحن المسيحيين في المشرق وأوروبا وأمريكا سنهدم الدنيا على رؤوسكم أيها المسلمون، وسنستعيد منكم سوريا وفلسطين ولبنان والعراق وتركيا التي فتحتموها بالسيف".
واليهود عرفوا قضيتهم في فلسطين، فسلكوا الطريق إليها وإن كانوا تبعاً للصليبيين، فانخرط جيشهم في جيوش الغزاة الصليبيين وسلكوا الطريق إليها ووصلوا.
هذه العجالة تؤكد أن الصراع على القدس وما حولها هو صراع حضارات وصراع وجود وصراع إرادات، هذا هو الوعي، وتؤكد أن الطريق إلى القدس هو طريق واحد، طريق القوة والجيش والحرب والحزم.
ومع أن قضية فلسطين هي من أكثر قضايا الدنيا وضوحاً، إلا أنها ويا للعجب وبفعل المؤامرات والتضليل أصبحت عند البعض أعقد من ذنب الضّب. فقضية القدس وما حولها هي قضية أرض إسلامية احتلها الأعداء الكفار ولا حل إلا بتحريرها، وهذا هو العنوان الوحيد الذي يجب أن يُرفع. فهل أكثر من هذا الوضوح وضوح؟
والأعداء الأصليون – الغرب الصليبي ومعه يهود - واضحون، تمثلهم دول معروفة بأعيانها، والأدوات التي استخدمت من قبل الأعداء واضحة، إنهم حكام سايكس-بيكو التي سلمت البلاد ليهود وحرستهم وقتلت في الأمة كل عوامل المناعة والقوة. والأدوات العالمية المستخدمة معروفة من أمم متحدة ومجلس أمن، وقانون دولي ومؤتمرات. والأساليب معروفة، تقزيم القضية من قضية أمة إسلامية إلى عربية إلى فلسطينية، إلى ضفة وغزة إلى فصائلية. وشعارات لفت الانتباه معروفة، القدس، اللاجئين، المياه، العودة، التعويض، 67، المشروع الوطني، المستوطنات، الخ. أما التبريرات فهي واضحة ومعلومة، الوضع الدولي والوضع الإقليمي، والضعف والانحلال، واختلال موازين القوى. كل هذا وغيره واضح ومعلوم، ومع هذا يبقى السؤال: لماذا غرقنا في شبر ماء.
إن المطلوب هو الانتقال من المعرفة النظرية إلى التصديق الجازم، الذي يصدّقه الحزم والفعل. بمعنى أن ينتقل قولنا أننا ندرك حقيقة هذه القضية إلى الارتفاع بأفعالنا إلى مستوى تلك القضية، سواء على المستوى النظري بإبقاء العنوان الوحيد المرفوع لتلك القضية أنها قضية حضارية عقدية إيمانية، بلاد إسلامية احتلها كفار، والحل الوحيد هو تحريرها، فيبقى التحرير هو العنوان، وهذا يقتضي إسقاط كل ما يضاده مثل الحل السلمي أو الاعتراف أو التنازل أو ال67 أو التعويض أو العودة وما إلى ذلك.
أما الطريق الذي يجب سلوكه حتى نصل إلى القدس وما حولها، ألا وهو الجهاد حصراً، فيُحتم علينا العمل لإسقاط الأنظمة الخائنة المحيطة بفلسطين واستعادة الأمة لسلطانها وإرادتها. وهذا يعني أن تُقطع الألسن التي تطرح طرقاً بديلة كالمفاوضات والحلول السلمية أو المنظمات الدولية أو الدول الكبرى أو المؤتمرات الدولية.
لكن لا بد من القول أنه وحتى نصل إلى ذلك اليوم، فلا بد من إبقاء جذوة الصراع العقائدي والفكري حول قضية فلسطين، حتى نُبقي على الوعي عند الأمة ونُفشل محاولات التضليل، كما أنه لا بد من إبقاء الكفاح السياسي مشتعلاً لكشف العملاء والخونة وتحطيم أضلعهم، وكشف الخطط والمخططات والأدوات والأساليب التي يستخدمها أعداؤنا للوصول إلى غايتهم أو النيل من إرادة الأمة ووعيها. وفي الوقت نفسه لا بد من إبقاء جذوة الجهاد مع كيان يهود قائمة حتى تأتي اللحظة فيلتحم الجميع مع جيوش الأمة في معركة التحرير.
رأيك في الموضوع