الدولة الكهنوتية، الدولة الدينية الكنسية، عصور الظلام، العصر التنويري، العقد الاجتماعي، التشريعات والقوانين المدنية، والدولة المدنية،... ما كنا لنشغل أنفسنا بكل تلك المصطلحات وواقعها وسياقها التاريخي والجغرافي الذي لا علاقة لنا به، إسلاماً ومسلمين، لولا أن الغرب الاستعماري وفي خضم معركته مع الإسلام عقيدة وشريعةً وأمة وسلطاناً، قد رمى بها في وجوهنا، لجعل عقيدته وأفكاره وتصوراته هي محل البحث والتأسي، وهي معيار التقدم والرقي، ولولا بعض أبناء المسلمين قد تأثروا وانبهروا بتلك الأفكار وحملوها للمسلمين، وأوجدوا بعض اللغط عندما حاولوا ليّ أعناق النصوص الشرعية لتطويعها حتى تنسجم وتتوافق مع تلك الأفكار، معلنين بذلك الهزيمة الفكرية، حين رضوا أن يكون الغرب وأفكاره هو قاعدة البحث ومعيار الصواب والخطأ والتقدم والتأخر والنور والظلام.
العقد الاجتماعي والدولة المدنية الحديثة، السياق التاريخي والواقع الفكري:
أما في السياق التاريخي، فإن فكرة الطبيعة الإلهية للحاكم وتقديسه فكانت قديمة ولها جذورها عند الفراعنة، ولكنها لم تتبلور إلى شكلها الحالي إلا في نهاية عصور الظلام في أوروبا وبداية ما يسمى بعصر النهضة والتنوير.
وكانت أوروبا آنذاك وبالذات فرنسا، تتحكم فيها نظريتان، الأولى نظرية الحق الإلهي المباشر، ومعناها أن الحاكم يُختار بشكل مباشر من الله، وأن الأفراد لا دخل لهم في ذلك الاختيار، وهو أمر إلهي خارج عن إرادة الأفراد، وبالتالي فإن الحكام يستمدون سلطانهم من الله وهم فوق المساءلة من الناس. والنظرية الثانية هي نظرية الحق الإلهي غير المباشر، حيث يُنتخب الحاكم من مجموعة من الناس مسيَّرة وليست مُخيَّرة.
وكانت ذروة تسلط الكنيسة في القرن الحادي عشر الميلادي وما تلاه، وقد عبر الأب جريجوري السابع (١٠٨٥م) عن ذلك التسلط حين خاطب رجال الدين النصارى بقوله "إن كان بمقدوركم الرابط والحلُّ في السماء، فإنكم على الأرض قادرون على أن تعطوا الملك من تشاؤون وتنزعوه ممن تشاؤون".
ثم أخذت الكنيسة تتقوى حتى فرضت نفسها والبابا على الدولة ككيان سياسي تعقد التحالفات والمهادنات والحرب والسلم والحرمان الكنسي ضد الملوك والأمراء، وسيطرت الكنيسة على كل شيء، وهي من حمل راية الحروب الصليبية.
ثم جاءت مرحلة ظهور دولة الحق الإلهي الملكي والتي تقول إن أصل سلطة الحكم هو أصل ديني، لكن الكفة بدأت ترجح لصالح الملوكي، وبقي للملوك نفس النيابة الإلهية رغم ضعف الكنيسة في تولية الملوك.
نظرية العقد الاجتماعي وواقعها:
لما وصلت المجتمعات في ظل حكم الكنيسة والكهنوت وسلطتهم المطلقة إلى الحضيض والفساد والتمييز الطبقي والقهر والظلم المجتمعي، والتأخر العلمي، بدأ بعض المفكرين يتحسسون طرق الخروج من ذلك المأزق واستمر ذلك من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر الميلادي. وكان الهدف هو إنشاء دولة حديثة تقوم على ما أسموه مبادئ المساواة في الحريات الأساسية والحقوق المدنية وفي الالتزامات القانونية.
تقوم نظرية العقد الاجتماعي ابتداء على افتراض مفاده، أن الأفراد كانوا يعيشون حياة فطرية لا تحكمها أية ضوابط "اللاعقل"، وأن الدولة لا تنشأ كشخصية قانونية بما لها من قوة سياسة وسيادة إلا بعد إبرام الأفراد لعقدٍ يتفقون بموجبه على أن يستبدلوا بالقانون الطبيعي الذي كان ينظم حياتهم "اللاعقل" قانونا من وضعهم وبتوافقهم ينتج عنه حقوق مدنية وسياسية "العقل"، لتوفير إمكانية التعايش بين الأفراد وإنشاء الجماعة السياسية.
وقد تبلور العقد الاجتماعي على أيدي فلاسفة وأبرزهم هوبز، وجون لوك، وجون جاك روسو. وقد اختلف أولئك الفلاسفة في تشخيص الحالة التي كان يعيشها الأفراد قبل العقد، واختلفوا في الأطراف المشاركة في العقد، وفي مضمونه والآثار المترتبة عليه. وفي ذلك العقد يتنازل كل فرد عن حقوقه الطبيعية لمجموع الأفراد الذين تمثلهم الإرادة العامة، مع احتفاظهم بالحقوق والحريات المدنية. ومن آثار هذا العقد تَمَتُّعُ الحاكم بسلطة مقيدة، وعليه احترام إرادة المجموعة حسب جون جاك روسو.
أما الإسلام فهو الدين الذي أنزله الله على سيدنا محمد ﷺ والمتمثل في الكتاب والسنة وما أرشدا إليه، والذي ابتدأ بنزول الوحي وكمل بانقطاعه عند وفاة رسول الله ﷺ وانتقاله إلى الرفيق الأعلى. فلم يكن الإسلام من صناعة البشر وليست أحكامه نتيجة التوافق بين أفراد أو مجموعات بشرية عبر عقد اجتماعي توافقوا عليه بينهم.
صحيح أن السلطان في الإسلام هو للمسلمين، وهم من ينتخبون الحاكم ويبايعونه على الحكم بالإسلام والسمع والطاعة تبعا لذلك، وأمرهم شورى بينهم، وأن الحاكم بشر غير معصوم يخطئ ويصيب، وتحاسبه الأمة، إلا أن السيادة المطلقة هي للشرع وحده في ذلك كله، وفرق بين السلطان والسيادة في الإسلام، وهذا على خلاف الدولة الحديثة الغربية والنظام الديمقراطي الذي جعل السلطان والسيادة كلها للشعب.
وأما الاجتهاد، فصحيح أن المجتهد بشر يخطئ ويصيب ولكن الاجتهاد هو بذل الوسع في تحصيل الحكم الشرعي لواقع ما من خلال النصوص الشرعية فقط، وليس هو صادراً عن هوى المجتهد أو مجرد رأيه وعقله بمعزل عن الوحي، وله طريقة وضوابط شرعية للوصول إليه.
وأما وثيقة المدينة التي وضعها رسول الله ﷺ بعيد وصوله إلى المدينة وإنشاء الدولة الإسلامية الأولى فإن تلك الوثيقة لم تكن نتيجة عقد اجتماعي بين الأنصار والمهاجرين واليهود وغيرهم من سكان المدينة، ولم تجتمع لجان أو هيئة تأسيسية لإيجاد التوافق فيما بينهم على عقد اجتماعي، بل كانت خضوع الجميع لأحكام الإسلام وحدها، يخضع لها المسلمون إيمانا واحتسابا وغير المسلمين كرها أو طوعا، ولم يستشر أحداً من الناس في ذلك.
ما كان لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤمن أن ما بين يديه هو وحي من السماء من خالق الكون والإنسان والحياة، الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه، ما كان له أن يترك هذا ويذهب إلى الشرق وإلى الغرب وإلى تجارب الناس وتشريعاتهم وإلى أقوال الفلاسفة والمؤرخين يبحث عندهم عن حلول لمشاكل الإنسان وما يصلحهم! وكان الواجب هو حصر البحث في الإسلام وأحكامه لإحداث النهضة والتغيير عند المسلمين، معتمدين على النصوص الشرعية فقط ومستنيرين بهذا الكم الهائل من التشريع الإسلامي الذي لا مثيل له عند الأمم والشعوب.
وبالتالي فكما أن الإسلام دين متميز ومحصور بالوحي وما أرشد إليه، فإن كل أفكاره وأحكامه وتشريعاته هي متميزة ومنبثقة عن عقيدته أو مبنية عليها.
ولما أقام رسول الله ﷺ دولته وتابعه عليها الخلفاء الراشدون، لم يلحظوا أنظمة الحكم القائمة في زمانهم عند الروم والفرس وغيرهم، بل أقاموا نظاما فريداً هو نظام الخلافة، الذي كانت فيه العقيدة الإسلامية هي أساس الدستور والقوانين الشرعية، وكل ما يتعلق بالحاكم وعلاقته بالرعية وعلاقة الرعية به وحقوق الجميع وواجباتهم، وهذا ما يجب أن يكون عليه الحال اليوم.
رأيك في الموضوع