كانت مكة إبّان بعثة الرسول ﷺ تمثل الدولة الأولى والمركز المحوري في جزيرة العرب. وقد كانت يثرب أبرز مناطق هذه الجزيرة، ونستطيع القول وفق التقسيمات في هذا العصر إنها الدولة الثانية على صعيد المكانة والبروز على مستوى الجزيرة. عندما تجمد مجتمع مكة أمام رسالة الإسلام ودعوة الرسول أوحى الله عز وجل لرسوله بأن يعرض نفسه على القبائل العربية يطلب منها أن تؤمن بدعوته وتنصر رسالة الإسلام. فكانت فكرة طلب النصرة حُكماً شرعياً ووحياً من الله عز وجل، أما أي القبائل يتوجه إليها وأساليب الاتصال فهو من الأساليب والتخطيط والتقدير البشري متروك أمورها لتقدير ورؤية الرسول عليه الصلاة والسلام.
والرسول عليه الصلاة والسلام كما تذكر كُتب السير توجه إلى الكثير من قبائل العرب طالبا منها أن تؤمن به وتنصر دعوته وقد كان الجمود في قبول الفكرة العنوان الرئيسي في رد هذه القبائل على طلبه. والسؤال الذي يقفز للذهن في هذه القضية لماذا لم يتوجه الرسول ﷺ إلى يثرب طالباً نصرة أهلها رغم أنها تمثل أبرز الكيانات في الجزيرة العربية؟! لا شك أن متعلقات فكرة طلب النصرة من تخطيط وتواصل وتقدير وأساليب هي من ضمن التقديرات والرؤى البشرية أي متروكة للإنسان وعقله وليست أمورا تشريعية يلتزم بها وفق حدود النص وما جاء به الوحي.
وعند التفكر في مسألة عدم توجه الرسول ليثرب طلبا للنصرة رغم مكانتها (إذ العقل البشري يقرر أن يثرب يجب أن تكون الوجهة الأولى للرسول بعد تجمد مجتمع مكة وذلك لمكانة هذه المدينة) نجد أن السبب أن يثرب كانت قد أرهقتها وطحنتها الحروب والصراعات الداخلية بين قبيلتي الأوس والخزرج والتي امتدت عشرات السنين فكانت (دولة) أنهكتها الحروب الأهلية بلغة اليوم، والعداوة بين أهلها قد بلغت مبلغا كبيرا جعلت فكرة وحدتهم أمرا يكاد يكون مستحيلا، فلذلك لا تصلح بيئة لإقامة دولة الإسلام فلا تطلب النصرة من أهلها، هذه هي تقديرات ورؤية العقل البشري.
فلذلك والله أعلم كان السبب الذي جعل الرسول لا يفكر في التوجه ليثرب طلبا للنصرة رغم أنه جاب أرض الجزيرة العربية وهو يعرض نفسه على قبائلها لتنصره. لقد كانت حكمة الباري عز وجل أن جعل هذه المنطقة التي أنهكتها وطحنتها الحروب الداخلية هي البلد الذي نصر دعوة الإسلام وكانت نقطة ارتكاز دعوته ونور سطوع شمسه وبذرة خير نموه وتوسعه إذ فيها أقام الرسول ﷺ دولة الإسلام الأولى بعد أن نصر أهلها دعوة الإسلام، فالله عز وجل ألف بين قلوبهم التي كانت مليئة بالعداء والحقد على بعضهم بعضاً، فبهذا التأليف أصبحوا يدا واحدة وكتلة واحدة ملتحمة وحملوا رسالة الحق مع بعضهم بعضاً ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
إن هذه النظرة تقودنا إلى خطأ الأفكار التي تروّج اليوم أن جل البلاد الإسلامية لا تصلح لنصرة الدعوة فالحروب والصراعات والعداء بين أبناء القطر الواحد وبين الكثير من الأقطار مستفحلة وقلوبهم شتى وبلادهم أصبحت خربة ضعيفة واهنة بحكم هذه الصراعات والنزاعات. صحيح هناك صراعات في البلاد الإسلامية وهي نتيجة سياسة الاستعمار وعملائه من زرع بذور العداء بين أبناء المسلمين لكن تبقى القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج وجعلهم وحدة واحدة في نصرة الإسلام قادر سبحانه على أن يجمع ويؤلف بين قلوب أبناء المسلمين اليوم فيتحدوا وينصروا دعوة الحق.
فلذلك ما حصل في يثرب من نصرة للإسلام وتناسي الجراح يجب أن يكون درسا بليغا لأولئك الذين يقولون إن بلادنا اليوم لم تعد صالحة لتكون نقطة ارتكاز لدولة الخلافة. فالعبرة بالتحول في واقع وحال يثرب هذا أن لا يأس لحملة الدعوة من البلاد الإسلامية اليوم رغم ما فيها من صراعات وفتن وتنافر وتدابر فالأمر بيد الله وهو وعد بالنصر والتمكين وما على حملة الدعوة إلا غذ الخطا في سبيل تحقيق الهدف لتعود خلافة على منهاج النبوة كما وعد الله القادر سبحانه وبشّر رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
بقلم: الأستاذ عطية الجبارين – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع