لا ينكر أحد في تونس أن الإرهاب قد أصاب الثورة ومسارها إصابة بليغة، بل يعتبر السبب الرئيسي في تحويل وجهة الثورة والانحراف بها وتغذية نيران الثورة المضادة وإعادة بعض أشكال الآلة القمعية، كما لا ينكر أحد أن الأعمال الإرهابية تجعل الحكومات تعمل في غاية الارتياح محمية من كل أنواع الانتقادات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وذلك لما يقتضيه الإرهاب من عزف على وتر الروح الوطنية ووحدة الصف وقيم الجمهورية وغيرها من الشعارات التي يتاجر بها الساسة والحكام.
وصلْنا في 25 تموز/يوليو 2015 إلى مصادقة البرلمان على القانون الأساسي عدد 2015/22 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، جاءت المصادقة على هذا القانون بعد جدل طويل وحاد بين كافة الأطراف السياسية؛ جدل أظهر فيه الكثير من العلمانيين واليساريين حقدا أيديولوجيا منقطع النظير، وأظهروا أيضا سطحية في فهم الحقيقة الدولية والإقليمية لظاهرة الإرهاب وفضحوا رغبتهم الملحة في عودة الدكتاتورية، وتَدَخَّلَ في هذا النقاش والجدل أطراف أمنية وعسكرية حاولت التأثير على مجريات صياغة مشروع القانون ومن وراء بعض السياسيين وبعض الأمنيين تفوح رائحة السفارات وتأثيراتها الملحوظة مثلما ظهر في بعض مواد هذا القانون وخاصة في الفصل الثالث الذي يحدد الجريمة الإرهابية الدولية أو ما سمي "الجريمة الإرهابية عبر وطنية"، أي تتعدى البلد اعدادا أو تنفيذا أو ما شاكل، فاتحا الأبواب على مصراعيها أمام المحققين الأجانب والتدخل الأجنبي بصفة عامة.
انطلقت صياغة قانون الإرهاب لسنة 2015 من قانون الإرهاب الذي أعده بن علي وشرع في تنفيذه سنة 2003 مع بعض التحويرات التي جعلت من القانون الجديد أكثر تطرفا وتورطا في هضم حقوق الناس وتجاوزا لكل أنواع الصلاحيات من القانون السابق، وهو اليوم قانون يوصف بالمتعسف والمتسلط وسماه البعض الآخر المسمار الأخير في نعش الثورة، قانون أثار حفيظة القضاة ورجال القانون؛ فقد أصدرت جمعية القضاة بيانا قالت فيه: "يلاحظ أن إشكالات أساسية ظلت قائمة في هذا القانون رغم التطور الحاصل فيه"، ومن بين هذه الإشكالات الأساسية أورد البيان مشكلة: "التعريف الفضفاض للجريمة الإرهابية"، و"افتقار بعض مفاهيم مثل "الإشادة بالإرهاب" و"تمجيد للإرهاب" إلى الدقة مما يخشى منه التوسع في دائرة التجريم بما يمس من جوهر الحقوق والحريات". وأهم نقطة وهي التي عانى منها الجميع في فترة المخلوع هي "التباس صيغة الفصل المتعلق بالاحتفاظ بما يوحي بأنه يمكن الاحتفاظ بالمظنون فيهم دون إذن قضائي".
وأثار كذلك هذا القانون سخط الصحفيين؛ فقد صرح نقيب الصحفيين ناجي البغوري أنه "تمت اتصالات حول الفصل 35 من قانون مكافحة الإرهاب المتعلق بسرية المعلومة من أجل استثناء الصحفيين والمحامين من الخضوع لهذا الفصل إلا أنه لم يتم العمل بالاتفاق الجاري وتم استثناء المحامين فقط من الإبلاغ عن الجريمة المتعلقة بالإرهاب والحفاظ على سرية المصدر". واعتبر البغوري هذا القرار خطيرا جدا ومن شأنه أن يعيد النظام السابق القاضي بقمع الصحفيين وتكبيل حرية التعبير. وقال البغوري "إنّ الحرب على الإرهاب لا يجب أن تكون ذريعة للمس من حرية الصحافة وتنوع المشهد الإعلامي".
وزاد هذا القانون رجال الثورة وشبابها إحباطا ويأسا من المسار الحالي ذلك أن قوى الثورة المضادة لم تكن لتتجرأ وتطرح مناقشة هذا القانون والمصادقة عليه وصياغته بهذا الشكل المهين المخزي الفاضح لولا تراكمات أخطاء وخيانات سياسيين محسوبين على الثورة انطلاقا من وضع دستور هزيل، ثغراته تسمح بتمرير كل أشكال القوانين، ثم مرورا بالتحالف مع التجمعيين وأزلام النظام السابق ووصولا إلى التستر على حقيقة الإرهاب والقعود عن حل ألغازه وكشف غموضه.
كل هذا يجعل المصادقة على هذا القانون بشكله ومضمونه رسالة واضحة المعالم وخطة مكتملة الأركان وهي تركيع الثورة ورجالها وإلجام الشعب وإسكات صوته، وإلا فإن ما تهددنا به الحكومة هو الدخول تحت طائلة قانون الإرهاب خاصة وأنه يحمل الكثير من الألفاظ ذات المعاني الفضفاضة ويفسح المجال لاجتهادات حكام التحقيق ومن قبلهم رجال الأمن، فمثلا يقول القانون في فصله الخامس أن "كل من يحرض على الإرهاب بأي وسيلة كانت يعتبر مرتكبا لجريمة إرهابية"، هكذا بدون أن يحدد القانون شكل التحريض أو نوعية الوسائل، خاصة وأن المجلس قد حذف لفظ "علنا" بعدما كانت في قانون بن علي لسنة 2003 "كل من يحرض علنا".
ومن أهم الفصول الفضفاضة التي تثير السخرية والريبة في الوقت نفسه هو الفصل المتعلق بالإشادة بالجريمة الإرهابية حيث يقول الفصل: "يعتبر مرتكبا لجريمة إرهابية كل من يتعمد علنًا وبصفة صريحة، الإشادة أو التمجيد بأي وسيلة كانت، بجريمة إرهابية أو بمرتكبها أو بتنظيم أو وفاق له علاقة بجرائم إرهابية أو بأعضائه أو بنشاطه"، فالإشادة والتمجيد هنا لفظان عامان لا يُفهم مدلولهما القانوني بوضوح، وبالتالي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يصبح التحليل السياسي الذي ينتقد أداء الحكومة وتقصيرها في مواجهة الإرهاب هو بمثابة الإشادة بالجريمة الإرهابية وتصبح تغريدة في مواقع التواصل من الوسائل التي يقع مستعملها تحت طائلة قانون الإرهاب.
أما أهم مغنم للحكومات والسلطة فهو الخلط الذي تعمده هذا القانون بين الجرائم الإرهابية والتحركات الشعبية الاجتماعية حتى يتسنى للحاكمين في تونس قمع أي تحرك احتجاجي أو اعتصام مطلبي وذلك تحت طائلة قانون الإرهاب، وهذا الخلط جاء مفضوحا وذلك من خلال الفصل الثالث عشر الذي يقول فيما يقول: "يعدمرتكبالجريمةإرهابيةكلمنيتعمدبأيوسيلةكانتالإضراربمقراتالبعثاتالدبلوماسيةوالقنصليةأوالمنظماتالدولية،أوإلحاقأضرارجسيمةبالبيئةبما يعرضحياة
المتساكنينأوصحتهمللخطر،أو الإضراربالممتلكاتالعامةأو الخاصةأو بالمواردالحيويةأو بالبنيةالأساسيةأو بوسائلالنقلأو الاتصالاتأو بالمنظوماتالمعلوماتيةأو بالمرافقالعمومية"..
وهذا ما يمكن أن تستغله الحكومة لقمع الاحتجاجات الشعبية ومحاكمة المنخرطين فيها بموجب قانون الإرهاب الذي تصل العقوبة فيه إلى الإعدام والسجن المؤبد وأخف العقوبات فيه هي السجن لخمس سنوات. في الحقيقة كما أن الإرهاب وإضراره بالثورة ومسارها مسألة معلومة مفضوحة فإن مسرحية صياغة هذا القانون وسوء الإخراج فيها أيضا مسألة يتحدث بها القاصي والداني في البلاد، وبالتالي يبقى الهزال سمة بارزة لكل القوانين التي توضع خدمة لمصالح السلطة وتحت إملاءات أجنبية ولا تحظى بأي تأييد شعبي، ويبقى كذلك الخزي والعار على من صاغ هذا القانون وصادق عليه وطبقه يحمل وزره ووزر كل من ظلم به.
هذا القانون مليء بالفصول الفضفاضة والمعاني العامة والثغرات القانونية التي تفسح المجال لرجال الأمن بتجاوز صلاحياتهم، وتهيئ الأرضية لآلة القمع وتعد المسرح السياسي لتمثيل مشهد قديم كان بن علي قد لعب فيه دور البطولة، ولكن يبقى للشارع كلمته التي قد تنسف دساتيرَ وتدك عروشا وتُسقط أنظمة دون أيما اعتبار للطائل القانوني الذي تقع تحته، فيقتلع طوفانها وسيلها الجارف كل هذه القوانين المخزية المذلة المتغطرسة، ويحبط كل هذه المخططات التي تريد أن تعود بنا إلى مربع ما قبل الثورة وتقف حائلا أمام تحرر الأمة ونهضتها.
بقلم: فراس العيني
رأيك في الموضوع