كان لانتزاع الثوار لمدينتي إدلب وجسر الشغور من قبضة نظام الأسد المجرم بسرعة قياسية بعد تشكيل جيش الفتح في الرابع والعشرين من شهر آذار الفائت، كان لذلك الانتصار الذي تحقق وقع الصدمة على النظام وداعميه، فراح يستغيث ويستصرخ ويستنجد بكل حلفائه ومرتزقته لدعمه بكل ما أوتوا من قوة للحيلولة دون سقوطه وسقوط نفوذهم معه في سوريا، ولعدم ذهاب تضحياتهم التي قدّموها على مدى السنوات الأربع والنصف الماضية هباء منثورا، فجاءت إيران بقضها وقضيضها، وقدّمت المزيد من المال والرجال لدعم نظام الطاغية المتداعي، وجاء معها حزبها في لبنان ليقدم المزيد من الرجال على مذبح الثورة.
وعلى الجانب الآخر كان لتحرير إدلب أثره الإيجابي المبالغ فيه على الثوار، فظنّوا أنّ مرحلة سقوط النظام قد بدأت خاصة بعد أن فُتحت أمامهم جبهتان حيويتان، وهما جبهة الساحل وجبهة سهل الغاب المفضية إلى مدينة حماة، وظنّوا أنّ النظام بدا أكثر هشاشة، وأنّه يسير بشكل متسارع في طريق التداعي والانهيار، لكنّ ثبات النظام المدعوم دولياً وإقليمياً قد فاجأهم، وعدم قدرتهم على تحقيق أية إنجازات تُذكر منذ أربعة أشهر بعد انتصارات إدلب قد دقّا ناقوس الخطر، وعادت الحرب تُراوح مكانها من دون حسم، فيما زادت أسباب التناحر بين الثوار أنفسهم.
ولتأخر حسم المعركة في سوريا أسباب عديدة أولها وأهمها غياب الاستراتيجية السياسية الجامعة بين الفصائل وعدم اتفاقها على مشروع سياسي واضح، وهو ما جعل الوحدة العسكرية فيما بينها لا تصمد أمام اختلافها حول النهج السياسي وتباين رؤاها الفكرية.
فجيش الفتح على سبيل المثال هو إطار عسكري جمع بين جبهات غير متجانسة من مثل جبهة النصرة ذات التوجه السلفي الجهادي، وبين أحرار الشام ذات التوجه السلفي الوطني، وبين فيلق الشام ذي التوجه الإسلامي الفضفاض، وهو ما أدّى في النهاية إلى إحباط جيش الفتح وفشله.
هذا من ناحية فكرية، وأمّا من ناحية سياسية فالاختلاف في الارتباط السياسي مع القوى الخارجية بين هذه الفصائل هو من أهم الأسباب التي تُعطّل الحسم، وتؤدي إلى تآكل قوة الثوار، ومن ثم تراجع قدراتهم العملياتية حتى عن الاحتفاظ بالمكتسبات التي حقّقوها.
وبالاضافة إلى ارتماء قيادة جيش الإسلام في أحضان السعودية، وتنسيقها مع أجهزة الاستخبارات التركية والقطرية والأردنية، والتي بدورها تُنسق أعمال الثورة مع أمريكا والدول الأوروبية، وهو ما يُعتبر شرخاً عميقاً برز في جسم الثورة، فقد ظهرت مؤخراً - وللأسف الشديد - توجهات سياسية جديدة لدى فصيل كبير ومهم من فصائل الثوار ألا وهو حركة أحرار الشام تدعو للتعاون حتى مع أمريكا نفسها، وتقديم نفسها أمام المجتمع الدولي بصورة القيادة المعتدلة التي بمقدورها وراثة نظام الأسد بعيداً عن التوجهات (المتطرفة)!، فقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست رسالة تطمين وعتاب لأمريكا بقلم لبيب النحاس مدير مكتب العلاقات الخارجية في أحرار الشام، يحثها فيها على تغيير أساليبها الفاشلة في سوريا، وضرورة قبولها بالثوار المعتدلين الوطنيين في سوريا بقيادة أحرار الشام.
إنّ هذه التوجهات السياسية المشبوهة التي برزت على السطح، بالإضافة إلى غياب الرؤية الاستراتيجية الجامعة لمستقبل سوريا بعد سقوط النظام، هما في الواقع من أهم أسباب عدم حسم المعركة ضد نظام الطاغية في دمشق.
والمخرج الوحيد للفصائل الثورية المقاتلة من هذا المأزق الذي تتخبط فيه حالياً يكمن في التفافها حول مشروع الخلافة بشكل واضح لا لبس فيه، وقطع صلاتها تماماً بأمريكا وعملائها وأذنابها، والاعتماد فقط في ثورتهم بعد الله العزيز الجبار على قواهم الذاتية المخلصة، والتخلص تماماً من التبعية السياسية بكافة أشكالها وألوانها وعناوينها. وللعلم، فقد سبق وأن قدم حزب التحرير ميثاق العمل لإقامة الخلافة للفصائل في سوريا وقدّم النصائح لها وحذرها من مغبة الركون إلى دول غربية أو إقليمية، ونبهها إلى خطورة السير بدون مشروع واضح للتغيير وإلى ما يجب أن تكون عليه البلاد بعد إسقاط نظام الأسد..
وعلى هذه الفصائل أن تعي جيداً أنّ الجماهير في سوريا متقدمة عليها في احتضان مشروع الخلافة، وسابقة لها في تبني ثوابت الثورة التي شارك حزب التحرير المخلصين في سوريا بإرسائها، وأنّ عليها أن تلحق بحاضنتها الجماهيرية الطبيعية قبل أن تخسر مكانها، وتلفظها من الثورة كما لفظت غيرها من قبل، فلا تغترنّ قيادات هذه الفصائل بما تملك من سلاح ورجال وعتاد، لأنّ ما تملكه من هذه القوى لن يدوم لها إذا ما تنكّبت عن طريق الأمة، وتخلت عن مشروعها الإسلامي الحضاري، فالضامن الوحيد لبقائها هو تمسكها بمشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وزيادة على ذلك فإنها في ركونها إلى أعداء المسلمين من الدول الغربية والإقليمية تكون قد سجلت على نفسها أنها قادت المسلمين للتضحية بأغلى ما يملكون ليس لتحرير أنفسهم وبلادهم من نفوذ الدول الغربية الاستعمارية، وإنما من أجل تنفيذ سياسات تلك الدول وتثبيت نفوذها.
رأيك في الموضوع