فوجئت الجالية المسلمة في فرنسا، بقرار صادر عن وزير التعليم الفرنسي غابرييل أتال الأحد 27 آب/أغسطس 2023، أي قبيل بدء العام الدراسي الجديد، يحظر على الطالبات المسلمات في المدارس الحكومية ارتداء العباءة وفق رويترز، حيث اعتبر الوزير ضمن لقاء تلفزيوني "أنها تعبر عن انتماء ديني في البيئة المدرسية ولا يمكن التسامح معها".
وحسب وسائل الإعلام الفرنسية، فإن هذه الإجراءات جاءت لتحديث الإرشادات للتعامل مع الأقلية المسلمة المتزايدة العدد. حيث حظرت السلطات الحجاب في المدارس عام 2004، وأقرت حظرا على ارتداء النقاب في الأماكن العامة في 2010، ما أثار غضب أبناء الجالية الإسلامية التي تضم نحو خمسة ملايين نسمة.
وقبل ثلاثة أيام من الموسم الدراسي، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حملة شرسة على مرتديات العباءة وغيرها من الملابس الإسلامية في الفصول الدراسية، كما شدد على أن "فرسان الجمهورية" أي المعلمين ومدراء المدارس لديهم الحق في الدفاع عن العلمانية. وعليهم أن يبدوا تأييدهم لهم عندما يتعرضون للتهديد والضغط، مؤكدا أن "الدولة والجمهورية تقفان وراءهم". حيث قال ماكرون، في حديثه للصحفيين بعد زيارة مدرسة في منطقة فوكلوز بجنوب فرنسا إن "الرموز الدينية من أي نوع ليس لها مكان في المدارس الفرنسية في ظل نظام العلمانية". وأضاف: "المدارس في بلادنا مجانية وإلزامية لكنها علمانية لأن هذا هو الشرط الذي يجعل المواطنة ممكنة، وبالتالي لا مكان للرموز الدينية من أي نوع كانت"، وشدد: "سوف ندافع بقوة عن هذه العلمانية". وقال إن المعلمين ورؤساء المدارس "لن يُتركوا بمفردهم" عندما يتعلق الأمر بتطبيق الحظر، مضيفا أن السلطات "لن تتهاون في هذا الموضوع".
بهذا الخطاب الحازم يحاول ماكرون، الذي لا يكاد يحصي أزماته في الداخل والخارج، أن يكبح جماح تنامي المد الإسلامي في بلده، لا بمجرد محاولات صهر المسلمين داخل المجتمع والمؤسسات التربوية، وإنما بالتضييق على الملتزمين منهم بالأحكام الشرعية، ليجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما الاستجابة لمعايير العلمانية أو مغادرة البلاد، حيث أكدت السلطات الفرنسية أن الطالبات اللاتي يرتدين العباءة والطلاب الذين يرتدون القمصان الطويلة لن يدخلوا إلى فصولهم يوم الاثنين 04/09/2023، في خطوة جديدة تقوم بها فرنسا التي صار لها صيت عالمي في محاربة الإسلام والمسلمين.
إن عداوة فرنسا للإسلام وأهله، لم تكن وليدة اليوم بل هي قديمة جديدة، فهي التي استعمرت بلدان أفريقيا المسلمة وأذلّت أهلها لعقود طويلة وارتكبت بحقهم أبشع المجازر، وهي التي تجرأت وتطاولت على سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلوات ربي وسلامه عليه تحت غطاء حرية التعبير، وهي التي كانت ولا تزال تثبت عداءها وحقدها الدفين بقراراتها وآرائها وسياساتها العنصرية، وها هي اليوم أيضا تعلنها صراحة وتدعوهم جهارا لمنع كل رموز الإسلام لما فيه من ضرب وتهديد لنظام بلاد وسياسة دولة.
إن الإسلاموفوبيا، وصلت بفرنسا مرحلة يجعلها تخشى من الإسلام في أبسط مظاهره الفردية، فلم تكتف بإعلان الحرب عليه ولا بمحاولة تشويهه، بل وصل بها الأمر إلى اتهام المعارضة المدافعة عن وجود المسلمين وعن حقهم في ارتداء ما يريدونه من لباس بالنزعة الإسلامو-يسارية، واتهام الجامعات على وجه التحديد باحتضان هذه النزعة وتغذيتها من المثقفين الفرنسيين الذين يشعرون بعقدة الذنب تجاه حقبة الاستعمار، وهو ما أثار موجة من السخرية حول الحالة التي وصلت إليها السلطة الرسمية في فرنسا في تعاملها وتعاطيها مع القضايا التي تهم الجالية الإسلامية.
هذا الخوف الشديد من تنامي الإسلام في فرنسا يكشف في الحقيقة وجود شرخ بالمجتمع في فرنسا في التعاطي مع الإسلام والمسلمين، حيث بدا واضحا أن أفكارا مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، والتي تكاد تكون مقدسة في فرنسا، لا تصمد أمام الطرح الإسلامي والممارسات الإسلامية، ما يجعل حماة هذه الشعارات منقسمين بين فريقين؛ فريق يتمسك بالحرية ويدافع عنها، من ذلك حرية اللباس، وآخر يعميه الحقد المبدئي عن الاعتراف بحق مسلمي فرنسا في ارتداء ما يمليه عليهم دينهم، بل تجده يدافع في المقابل عن الشذوذ والفحش والرذيلة ولو أدى ذلك إلى العري، وهذا الفريق تمثله السلطات الرسمية في فرنسا ومن يسايرها ممن أعلنوها حربا على العفة والطهارة انتصارا لليبرالية.
إن ما تمر به فرنسا اليوم، يعكس أزمة حضارية ومبدئية عميقة انعكست بدورها على منظومة القيم، حيث لم يعد المبدأ يستمد شرعيته لدى الناس من قوة الفكرة وإشعاعها بل من الصرامة في تطبيق القانون، وهذا مؤشر على قرب تهاوي الحضارة الرأسمالية في عقر دارها، وهي التي تأسست منذ أول يوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة، وظلت فرنسا تمنّ على البشرية تصديرها لهذه العقيدة الفاسدة!
إن فرنسا ماكرون لن تزيد بهذه الإجراءات العنصرية إلا تسريعا في انحدارها، وهذه الحلقة في مسلسل الحرب على الإسلام لن تزيد المسلمين في فرنسا إلا قوة وصلابة وعزيمة وتمسكا بأحكام دينهم بإذن الله، فهي تلفت انتباه الناس نحو طرح الأسئلة الوجودية والحقيقية التي توصل في النهاية إلى اعتناق دين الإسلام، بعد اكتشاف حقيقة إفلاس مبدئهم وتناقض قيمه وزيف شعاراتهم الكاذبة من حرية ومساواة وقبول للآخر وضمان لحقوق الأقلية، وغيرها... فالمسألة إذن، هي حرب وجودية، عقديّة بالأساس بين الإسلام والكفر تدفع إلى الكراهية والهجوم وشنّ حروب دائمة ضد الإسلام ومنتسبيه، ولكن ذلك لا يزيد إلا من الالتفاف حول الإسلام بإذن الله.
أما محاولات السلطات الفرنسية الاستعانة بجهود "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" في تمييع الإسلام وأحكامه واعتبار العباءة "شكلا من أشكال الموضة وليست زيا دينيا" أو اعتبار الإسلام متوافقا مع الجمهورية والعلمانية، فهو وجه آخر من محاولات احتواء المسلمين وصهرهم في بوتقة الحضارة الغربية من أجل دفعهم تدريجيا نحو الاندماج التام في المجتمعات الغربية.
ختاما، فإنه كان الأحرى بماكرون العودة إلى مواقف رؤساء فرنسا وكيفية تعاملهم مع أمة الإسلام ودولة الإسلام، حيث عبر الملك الفرنسي هنري الثاني دائما عن تقديره للدعم العثماني، وأثنى على سليمان القانوني باحترام عميق، واصفاً السلطان بأنه "الصديق الموقر، والملك العظيم للمسلمين، والإمبراطور الذي لم يهزم". ولكن أنى لهذا المأزوم أن يدرك حجم الأزمات التي يوقع بها نفسه في كل مرّة، حتى غدا عنوان الأزمة محليا ودوليا؟!
قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
بقلم: الأستاذة زينب الدجبي
رأيك في الموضوع