تتنافس الكيانات الهزيلة التي أقامها الكافر المستعمر في بلاد المسلمين فيما بينها على اختراع مُكوّنات اصطناعية وهمية لتكوين هُوية مُزيّفة تتمايز بها تلك الكيانات عن بعضها بعضاً، فدول المغرب العربي على سبيل المثال تُقحم المكوّن الأمازيغي في الهُوية المغاربية، والعراق وسوريا تجعلان من المكوّن الكردي جزءاً من الهُوية لديهما، ومملكة آل سعود تبحث عن مُكونات تُراثية صحراوية بدوية لإضافتها إلى هُويتها العائلية الملكية السعودية، كسباقات الهجن، وتركيا تستجلب من أعماق التاريخ التركي أسطورة الذئب الأغبر ليصبح جزءاً من الهُوية التركية، وإندونيسيا وماليزيا تُدخلان عناصر إثنية هندوسية وبوذية إلى جانب القوميات المحلية الموجودة لديها لتشكيل ملامح الهُوية الممسوخة لديها...
وهكذا تسعى سائر تلك الكيانات الزائفة لإيجاد هُويات مُصطنعة لا علاقة لها بولاء الأمّة الإسلامي ولا بانتمائها العقائدي، وتُحاول الترويج لتلك المركبات الوهمية على أنّها رابطة وطنية تعتز بها مُجتمعات هذه الكيانات، لدرجة قد تصل معها إلى مُستوى التقديس.
إنّ الإسلام أبطل جميع الروابط العرقية والعشائرية والقومية بوصفها روابط عصبية جاهلية، وصهر الناس الذين يعيشون في داخل الدولة الإسلامية في بوتقة العقيدة الإسلامية صهراً عميقاً، وأحكم هُويتها الإسلامية إحكاماً تاماً من خلال الالتزام بمُركبات إسلامية مُنضبطة عدة تُوحّد ولاء وانتماء المجتمع الإسلامي المتميّز، وأبرز هذه المركبات:
1- الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والعيش في دار الإسلام:
قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾، فمن قدّم رابطة الآباء والأبناء والعائلة والعشيرة (القوم) ورابطة المال (المصالح) ورابطة المساكن (الوطن)، على رابطة الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله (العقيدة) فقد تعرّض لسخط الله والتربص بالعذاب.
قال الطبري في تفسيره: "قل يا محمد للمُتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام المُقيمين بدار الشرك إن كان المقام... أحب إليكم من الهجرة إلى الله ورسوله من دار الشرك...".
وفي ذلك تهديد صريح للمسلمين المتخلفين عن الانتقال للعيش في دار الهجرة وهي دار الإسلام، فالهجرة بمفهومها الشرعي هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام وحكمها الوجوب إلا في حالات مُعينة، والعيش في أي بلد لا يكون دار إسلام تُطبق فيه أحكام الإسلام وأنظمته لا يجوز، إلا إذا كان يعمل على تحويله إلى دار إسلام.
2- التابعية والدستور والعلاقات الدولية والسلم والحرب يجب أن يكون أساسها الإسلام:
قرّر الرسول ﷺ هذه الأمور الجوهرية كأحكام شرعية في صحيفة المدينة والتي جاء فيها: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيِّ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ، وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِيَ بَعْضٍ دُونَ النّاسِ، وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ».
3- التكافؤ بين الدماء وحرمتها وضمان حقوق أهل الذمّة وتبعيتهم للمسلمين:
قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَخَفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً» وقال: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، وهذه الأحكام هي التي تصوغ مُجتمعاً مُتماسكاً مصون الدماء يضمن لكل من يعيش فيه الأمن والأمان.
4 – الوحدة والترابط والانصهار في الدولة مرجعها جميعاً أخُوّة الإسلام:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وقال رسول الله ﷺ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»، فالأخوة مبنية على أساس الإيمان والتقوى وليس على أي أساس آخر مهما كان.
5 – المودة والبغض والشدة والرحمة مقياسها دائماً الإيمان بالله واليوم الآخر واتباع الرسول ﷺ:
قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّه أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وقال سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾.
6 – التناصر والتناصح والولاء شرطها جميعاً الإسلام:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، وقال ﷺ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِماً عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِماً فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ»، وقال ﷺ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
فالموالاة والنصرة والتناصح كلها مقترنة بالإيمان والإسلام والقرآن والجهاد.
فإذا كانت الرابطة والدار والجهاد والوحدة والدستور والعلاقات والذمة والحب والبغض والتناصر والولاء والدماء كلها مقرونة ومشروطة بالإيمان والإسلام فماذا بقي للروابط الأخرى؟!
الجواب لا شيء؛ فكل شيء في حياة المسلم مرتبط بالإسلام بوصفه عقيدة ونظام حياة، فالهُوية والولاء والانتماء بين المسلمين تُحدّده هذه المكونات الإسلامية، ولا قيمة لأي شيء آخر، بل لا مكان لغير الإسلام في حياة المسلمين، فلا قيمة للقومية والوطنية والمصلحية وما يُسمّى بالقيم الإنسانية، فكلها في الإسلام هباء منثور.
وأي طرح عن ولاء المسلم وهُويته وانتمائه يُدخل في ثناياه مرجعيات قومية أو وطنية أو وضعية فلا قيمة له، والإسلام هو الوحيد الذي يُشكّل الهُوية والولاء والانتماء، ولا تتشكّل هذه الهُوية تشكلاً صحيحاً وكاملاً من غير وجود دولة الإسلام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع