لطالما كان هناك اهتمام إقليمي وعالمي بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك للسيطرة على ثرواته وعلى القرار السياسي فيه، ومنع خروجه من قبضة الغرب. لذلك رأينا في العقد الأخير تدميراً كبيراً للبلاد التي قامت بثورات فيه وفي شمال أفريقيا. وبخاصة بعد أن ظهر في الثورات توجه إسلامي قوي. ولا يخفى ما يجري من عمليات تدمير ضخمة للبلاد التي حاولت التحرر كما رأينا في سوريا، وما يجري من تدمير وإنهاك مستمرٍ كما في ليبيا واليمن، وما يجري في مصر من عمليات استئصال لأي توجه سياسي إسلامي، وما يُحاك لتونس لإلحاقها بالذي يجري في مصر. وهذا التدمير مع ما يرافقه من قتل وتهجير للناس، وإفقار وإرهاق، وإطالة عمر الأزمات بغير أفقٍ منظورٍ لأي حل، وغيره، دفع المراقبين إلى تساؤلات عن أهمية منطقة الشرق الأوسط، عند الدول الكبرى لصالح مناطق أخرى.
نعم، لقد طُرح هذا الموضوع عن أهمية الشرق الأوسط في السياسة الدولية، وهناك من يطرحه بقصد التضليل، لصرف النظر عن خطط الغرب وغيره، وسياساتهم تجاه البلاد الإسلامية وما يعتمل فيه من أحاسيس للتغيير، وما يتفاعل فيه من توجهات للانعتاق من هيمنة الكفر، ومن تطلعات لإقامة الدولة الإسلامية.
فالغرب، يبذل كل ما يستطيع ليحقق نصره الحضاري والسياسي على الإسلام، ولكنه يحارب بغير نصر، حتى صار الرأي الغالب بين سياسييه ومراكز الدراسات فيه أن حربهم ضد الإسلام حرب بلا نهاية، وبلا نصر، وبتكاليف باهظة. وقد طال أمد هذه الحرب وتعددت خططها وانقسمت توجهاتها، وانكشف جلياً أنها حرب على الإسلام السياسي، الذي هو بنظرهم تطرف وإرهاب. هذا هو واقع وأساس التشكيك الغربي بأهمية الشرق الأوسط. والشواهد على ذلك لا تُحصى، سواء لجهة جدية حربهم على الإسلام، أو لجهة أهمية الشرق الأوسط الجيوسياسية، أو أهميتها لما فيها من ثروات نفط وغاز وطاقات بشرية. ومن أهم هذه الشواهد:
بتاريخ 11 كانون الثاني 2021 عقد "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" (WINEP)، مقابلة مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، بوصفه سياسياً ومستشاراً عالمياً، والرئيس التنفيذي لــ"معهد توني بلير للتغيير العالمي"، عنوانها أمريكا، الشرق الأوسط، والعالم (رابطها bit.ly/34RcCS3). وصف فيها المعهد أفكار بلير بأنها: "نظرة جيوسياسية في صناعة السياسات، وتوجهات استراتيجية للعام 2021". وجّه المعهد إلى بلير أسئلة في قضايا دولية متعددة، منها: "عندما تنظر إلى الكرة الأرضية، أين تجد الشرق الأوسط... أين منطقة الشرق الأوسط في الأجندة العالمية؟ هل هي مكان لمنافسة القوى العظمى أم أنها أقل أهمية بكثير من ذي قبل؟".
ما من باحث سياسي استراتيجي لا يدرك أهمية منطقة الشرق الأوسط، بوصفها ملتقى قاراتٍ ثلاث، وحدودها وسواحلها مفتوحة على البحار والمحيطات، ما يجعلها نقطة وسط لمواصلاته وتجاراته، ويعلم أن هذه الأهمية ازدادت بعد اكتشاف النفط فيها بكميات تجارية ضخمة، ما جعلها محلاً للصراعات، ثم ازدادت هذه الأهمية بعد اكتشاف النفط والغاز فيها بكميات كبيرة شرقي البحر المتوسط، ما يجعلها مستهدفةً عالمياً وفي عين العاصفة. ولكنّ بلير قفز عن هذه الأسباب، وأرجع أهمية المنطقة إلى شيءٍ واحد، هو أن نتيجة الصراع بين الحضارة الغربية والإسلام تتقرر في هذه المنطقة، وفيها يتقرر مصير الإسلام في العالم، فقال: "هناك جدل كبير حول هذا الموضوع، لكن الشرق الأوسط لا يزال مهماً. إنه مهم للغاية. إنه مهم لأن الشرق الأوسط هو المكان الذي فيه سيتقرر مستقبل الإسلام. هل تتغلب قوى التحديث الموجودة في الإسلام وتصبح لها الصدارة؟ هو مهم لأن تأثيره لا يقتصر على الشرق الأوسط فقط، ولكن على شمال أفريقيا أيضاً، ويؤثر بشكل متزايد في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. الأوروبيون ينظرون إلى المكان الذي ستأتي منه الموجة التالية من الهجرة والتطرف... لذلك، تظل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهمة".
ويكاد يقرر بلير وبشكل حاسم أن أهمية منطقة الشرق الأوسط غير متناهية، لأنها هي التي تقرر مستقبل الإسلام في العالم، فينبغي الاهتمام بها إلى أقصى حد لأجل القضاء على الإسلام السياسي فيها، وتحقيق انتصار الأفكار والقيم الغربية، التي يوجد في الشرق الأوسط أعداد متزايدة من الذين يحلمون بالعيش وَفقها، وهؤلاء يجب دعمهم. ويجب في المقابل دحر التوجه الإسلامي الذي يستهدف تطبيق الإسلام وجعله معيار العلاقات في المجتمع، حيث قال: "يجب أن تنظر إلى المنطقة على أنها منطقة صراع كبير، هو رغبة جيل الشباب... إنهم يدركون أن المستقبل الوحيد للشرق الأوسط في النهاية هو الاتصال بالعالم، وجزء من هذا الاتصال أن تكون متسامحاً دينياً، ومنفتح الذهن تجاه من ينتمون إلى ديانات وثقافات مختلفة". ثم قال: "هناك صراع في الشرق الأوسط، لكنه ليس صراعاً بين القوى العظمى، ولا بين الشيعة والسنة، ولا على السلطة. إنه صراع من أجل القِيم، القِيَم التي هي صدىً لقيمِنا. من الضروري أن ندرك أن الشرق الأوسط لا يزال مهماً وذا أهمية أساسية. هناك أشخاص في المنطقة يجب أن ندعمهم، وهناك أشخاص يجب أن نقاومهم". وقال: "لقد شكّل الربيع العربي خطراً بسبب تجمع العديد من الناس... من أجل التخلص من الوضع الراهن... كانت هناك معركة ضخمة بعد الربيع العربي بين الحداثيين والمتطرفين والإسلاميين... سيظهر بشكل متزايد جيل جديد، جيل ما بعد الربيع العربي، جيل ينظر إلى الأوضاع بطريقة جديدة وأكثر إيجابيةً... لا تزال قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية من القضايا الرئيسية للحكومات الغربية لأنها جزء من أنظمة القيم لدينا ومما نؤمن به".
وينفي بلير أية أهمية لصراعات في المنطقة غير الصراع بين أصحاب الأيديولوجية الإسلامية السياسية وأولئك الذين لا يرون رأيهم، فيقول: "الصراع هو بين أولئك الذين يقولون إن الدين يجب أن يهيمن ويتحول إلى أيديولوجية سياسية، وأولئك الذين لا يرون ذلك. من المهم أن تدرك ذلك وإلا فقد تسيء فهم عملية التغيير الجارية في الشرق الأوسط، وينتهي بك الأمر إلى التفكير في أنه قد يكون من الأفضل إذا غسلنا أيدينا من الأمر برمته، وهو ما أعتقد أنه سيكون خطأً كبيراً". ويحاول إغراء بايدن بأن تقوم أمريكا بدور قيادي عالمي لتحقيق النصر على الإسلام السياسي، فيقول: "سأخبره أن هناك توقاً كبيراً من حلفاء أمريكا في الخارج إلى قيادة استراتيجيةٍ للولايات المتحدة على المسرح العالمي. سيرغب الأوروبيون والمملكة المتحدة في العمل مع الولايات المتحدة، على الرغم من وجود بعض نقاط الاحتكاك معها".
وكما تؤكد هذه التصريحات من بلير على أن هناك حرباً دولية على الإسلام، فهي تؤكد أيضاً على الهاجس الغربي من استعصاء الإسلام على الهزيمة أو التطويع. وهي إحدى العلامات على أن الحرب على الإسلام ضرورة غربية وفي مقدمة أولويات الاستراتيجيات الغربية. ومهما يكن كيدهم ومكرهم فلعل نصر المسلمين قريب ومن ثم يُرَد كيدهم إلى نحورهم وما ذلك على الله بعزيز. قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً﴾.
بقلم: الأستاذ محمود عبد الهادي
رأيك في الموضوع