إن أية دولة في العالم تقوم على قاعدتين أساسيتين هما السيادة والسلطة، والسيادة هي صلاحية التشريع وقد كانت هذه السيادة منذ نشأت الأمم إما لله أو للإنسان ولا ثالث لهما، وعندما تكون السيادة للإنسان فإنها تتخذ أشكالا عدة فقد تختزل في شخص كفرعون وهو يقول ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وقد تكون في الحزب الحاكم كالحزب الشيوعي وكانت قبل الثورة الفرنسية بيد الكنيسة ثم تحولت بعد الثورة إلى الشعب والذي يمثله مجلس النواب التشريعي، وهي مع اختلاف أشكالها تتفق في جعل صلاحية التشريع للإنسان. وبعد أن بعث الله محمداً e حصر السيادة لله وحده وأقام دولته على هذا الأساس واعتبر كل حكم مخالف لهذا الأساس طاغوتا يجب الكفر به، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾. ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾...
فمما تقدم يتبين أن لصلاحية التشريع والحكم على الأفعال مصدرين لا ثالث لهما؛ فإما لله (الشرع) وهو ما جاء به رسول الله e أو للإنسان (العقل) مع اختلاف مسمياتها. وإذا أردنا الحكم وبيان الحق في ذلك لا بد لنا من معرفة واقع الجهتين وصفاتهما.
فعند بحث واقع الإنسان من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة نجد أنه عاجز ومحتاج ومحدود وأنه متفاوت ومختلف؛ فما يقوله شخص عن فعل حسناً يقول عنه الآخر قبيحاً، ومتناقض؛ فما يحكم به على أمر حسن في وقت ما يحكم عليه بالقبح في وقت آخر، وهو متأثر بالبيئة التي يعيش فيها وتختلف أحكامه وفقا للواقع المتغير. فمن كان واقعه هذا لا يمكن أن تُسند إليه صلاحية التشريع، لأن النتيجة هي شقاء الإنسان وتعاسته. وما حال البشرية الذي تعيشه اليوم من بؤس وشقاء إلا بسبب الخضوع لغير الله تعالى في الدساتير والأنظمة والقوانين وفي الدولة وسائر مفاصل الحياة.
أما الجهة الثانية فهي الله (الشرع) فهو خالق الإنسان والعليم بحاجاته وغرائزه وكل خلجاته ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ فهو أعلم بما يصلح حاله وهو الذي يحدد الحسن ويثيب عليه ويحدد القبيح ويعاقب عليه.
أما القاعدة الثانية وهي السلطان وهو صلاحية التنفيذ فهو للإنسان وقد جعله الله لـ (الأمة) تعطيه لمن ينوب عنها في تطبيق شرع الله عن رضا واختيار بالبيعة التي تتخذ وسائل عدة، وقد يغتصب هذا السلطان بالقوة أو بالإكراه. وبما أن البيعة هي عقد مراضاة بين الأمة والحاكم فإن هذا العقد يبطل بالإكراه حاله حال جميع العقود، وما خروج الحسين عليه السلام إلا لإعادة السلطان المغصوب الذي اغتصبه يزيد من الأمة بالإكراه فلم يكن خروجه للسيادة أو لتغيير النظام.
من أجل ذلك نقول إن عمل الأنبياء وحملة أمانة الأنبياء هو جعل السيادة لله (للشرع) فسيادة الشرع غايتهم وليس السلطة، وهذا واضح في غاية رسول الله e منذ بعثته إلى أن هيأ الله له نصرة الأنصار ومكنه من إقامة دولته في المدينة المنورة والتي كانت السيادة فيها لله وحده. وقبل ذلك أعطي رسول الله السلطة في مكة على حساب السيادة ولكنه رفضها؛ فقد جاءه عتبة وقال له يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: أفعل، قال: «بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبٌ فُصّلَتْ ءايَتُهُ قُرْءانا عَرَبِيّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرا وَنَذِيرا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾، ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك». واستمر المسلمون وهم يفتحون البلدان على هذا النهج وهو تطبيق شرع الله في الأرض وجعل السيادة لله وحده لا شريك له، وأصبحت دولة الإسلام بعد سقوط الإمبراطوريتين الرومية والفارسية هي الدولة الأولى طوال ثلاثة عشر قرنا عاش فيها المسلمون العز والطمأنينة.
فمن كل ما تقدم يمكن الإجابة على العنوان "لماذا الخلافة؟" فهي أولا وقبل كل شيء حكم شرعي أمر الله به رسوله والمسلمين، قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾، وهي سعادة العيش وبدونها التعاسة والشقاء، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾، وهي عز المسلمين وهذا واضح بعد هدم دولة الخلافة العثمانية، وقد خسر المسلمون بعدها كل شيء من عز وكرامة وأمن وأمان وأصبحوا كالأيتام على موائد اللئام.
اللهم انصر دينك وأكرمنا بدولة الخلافة على منهاج النبوة... آمين
بقلم: الأستاذ مازن الدباغ
رأيك في الموضوع