في الثامن والعشرين من رجب من كل عام تمرّ في ذاكرة المسلمين المخلصين لدينهم وأمتهم ذكرى أليمة مفجعة، ألا وهي ذكرى هدم دولة القرآن، دولة سيد الأنام محمد e، تلك الدولة التي استظل بظلها الوارف المسلمون ما يقربُ من ألف وأربعمائة عام عاشوا خلالها سادةً ومشاعل من نورٍ للعالم، أمنوا فيها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ودمائهم ودينهم.
دولةُ الخلافة تلك، التي هُدمت في 28 رجب 1342ه، الثالث من آذار/مارس لعام 1924م، بعد أن كاد لها أعداؤها من العرب والعجم من باعوا أنفسهم للكفر وأهله بثمن بخس. تمرُّ ذكراها... غير أنه لا يُكتفى بذكرها وتذكير المسلمين بها وبأنها سبب عزتهم وكرامتهم، بل إنّ ذكراها يجب أن تكون دافعاً يدفع بالعاملين لها وبمن قضى شبابه وعمره في العمل على إعادتها واقعا يعيشه المسلمون في ربوع الأرض.
وفوق ذلك، فإنّ الواقع الذي يعيشه المسلمون في بقاع الأرض كلها لهو خير شاهد على ما آلت إليه حالهم من ضياع وتشرذم ومهانة ورخصٍ لهم ولدمائهم، يستبيحهم أرذل الخلق، خلقٌ من بعد خلق يتناوبون على إذلالهم وهدر كرامتهم وأموالهم ومقدراتهم. ولا أدلَّ على ذلك من الشواهد والأصنام المحكّمة على رقابهم ممن يسمّون حكّاما، والذين لا يملكون بين أيديهم أبسط أدوات الحكم وشرائطه، فتبعيتهم وعمالتهم وخيانتهم لأمتهم تنطق بها كلّ أحوالهم ليل نهار. فقد أسلمونا لعدونا، وتآمروا معهم علينا، منفذين تعاليم أسيادهم، مطبّقين علينا أحكاما لا صلة لشرع الله بها لا من قريب ولا من بعيد، ويعملون وفق منظومة سياسية لا أصل فيها ولا فرع من شرعنا الحنيف.
فأصبح المسلمون يعيشون في دويلات متهتّكة مشرذمة، فلم يعودوا أمة واحدة من دون الناس. فذاك أردني، وهذا مغربي، والآخر باكستاني... وطنيات وقوميات عفنة نتنة ما أنزل الله بها من سلطان، لا يقبل بحالها من سلم عقله وصحّت عقيدته من أحفاد الفاتح وصلاح الدين والعزّ بن عبد السلام. ولا يرضى بها من كان حاكمه يوما أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً... أعلامٌ أتقياء أنقياء دانت لهم مشارقُ الأرض ومغاربُها!!
ثمّ لما ننظرُ إلى حالنا من زاوية غير زاوية تشرذمنا، نجد أننا قد أسلمنا أمرنا لحكامٍ عظيمُ مهمتهم هي إرضاءُ أسيادهم ومن مكّنهم من كراسيّهم، ولو بذلوا لأجل الحفاظ على حالهم تلك دماءنا وأموالنا وأعراضنا، والشام واليمن وباقي بلاد المسلمين شاهدٌ حاضر. وتلك العراق شاهد يصرخ بعمالتهم وسيرهم مع أعداء الأمة على حساب دمائها وأعراضها، وأفغانستان تئنّ تحت وطأة حرابهم، وكشميرُ ومن قبلها البوسنة سالت دموع البواكي فيها أنهارا من دماء، والهند وكشمير يُذبح فيها المسلمون على يد عُبّاد البقر والعالم ينظر ولا يحرك ساكنا لأن القتلى من المسلمين... وهذه فلسطين، بلد المحشر والمنشر، مهد الديانات والرسالات، أرض اجتماع الأنبياء الذين ما اجتمعوا إلا فيها، أرض الربط بين أرض الله وسمائه بعروج نبيه e منها إلى الملأ الأعلى، الأرض التي بارك الله فيها وحولها، أرضها دماءٌ وأشلاء، وماؤها دموع تذرفها أمهات ثكالى وشيوخ فجعوا بالأهل والأبناء!! وحكام الذّلة والمهانة يصافحون ويسمرون ويضحكون ويحضنون ويحمون القاتل وكأنهم يباركون له شنيع فعاله بالمسلمين!!
أيها المسلمون، يا من سماكم الله بالمسلمين من فوق سبع سماوات، ولم يسمّكُم بقوميات ولا وطنيات عفنة منتنة! ألم يأن لكم أن تخشع قلوبكم لذكر الله وما أمركم به؟! ألم تعلموا بعدُ أن دولاً مجتمعةً هي التي يجري على أيديها ما يجري من تقتيل واحتلال وتدمير؟؟ دول اجتمعت على إذلال كلّ من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يثنيهم ولن يثنيهم عن سوء فعالهم فردٌ ولا جماعةٌ مهما بلغت قوتها وعديدُها، بل دولة وجيش ربانيٌّ فيه أمثال الأوائل من صحابة رسولنا e.
إن العقل السليم ليدرك - قبل أن نتحدث بالشرع - أنه في تاريخ الأمم قانون، وهذا القانون هو أنه:
لا يقف في وجه الدولة إلا دولة، ولا يقضي على دولة أيا كانت إلا دولة، وبأن الأفراد والجماعات مع عملهم في عدوهم فإنهم لا يُنزلون به إلا أذى - مع كل تقديرنا واحترامنا لمن اتخذ من الجهاد فيما تبناه طريقا لقتال يهود ومحاربتهم - إلا أن الفرد والجماعة لا يمكن بحال أن تزيل من الوجود دولة، لأن المسألة لا تتعلق بعلاج أعراض لداءٍ، بل لا بدّ من حلّ جذري للمشكلة وسببها، فمشكلة المسلمين هي في أساسها أن شرع الله غائب، ودولة الإسلام حامية دينهم وأعراضهم ودمائهم غائبة، وأن أمير المؤمنين الذي يُقاتل من ورائه ويتقى به كما قال الصادق المصدوق أيضا غائب، وأيُّ ظنٍّ لحلّ لمشكلة المسلمين في غير هذه الدائرة هو تخدير وتسكين للألم لا يرفع ذلّة ولا يعيد كرامة!!
فتلك الجيوش الرابضة في ثكناتها، الصامتة صمت أهل القبور، هم الذين يتوجب عليهم أن يلبوا صرخات الثكالى والأيامى، صرخات الشيوخ وعويل الأمهات، ودماء الأطفال وأشلاءهم التي تلعن مع كلّ قطرة منها كلّ متخاذل خانع ساكت لا يحرّك ساكنا لنصرة المسلمين، كلّ المسلمين. فتلك الجيوش يجب أن تعود إلى أصل عملها، فتلتحم مع الأمة جسداً واحداً، بهم ومعهم يعملون جميعاً على إعادة عزّ الإسلام والمسلمين.
إخوة الإيمان! وطّنوا أنفسكم على أن حلّ قضاياكم لا يكون إلا بدولة وإمام، واعلموا أنكم جميعا مأمورون من فوق سبع سماوات أن تعملوا لدينكم وأمتكم وأن لا ترضوا بالكفر شريعة تُحكمون بها، ولا بالأذناب حكاما فوق رقابكم، فها نحن نراهم ونشهد على جبنهم وتخاذلهم وتواطئهم ليل نهار، وهم أدنى من أن يحموا أنفسهم أو يدافعوا عن وجودهم إن هددهم أسيادهم، فذلك قتلوه، وهذا يطلبونه لمحكمة الجنايات، وبقيتهم صامتون صمت ذلّ وخنوع، فهل تبتغون عند حكام كهؤلاء العزّة أو الكرامة أو النصر؟؟!
اعلموا أيها الكرام، أن كلّ من سمع سيشهد على نفسه أمام الخالق الجبار في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم...
فهل يرى الغرب خطر العاملين للخلافة ويخافون من نتائج عملهم في حين إن المسلمين لا يزالون إلى اليوم يرون الخلافة حلما لا يمكن أن يتحقق؟! فهل تنكرون آيات الله ووعده، ونبوءة نبيه e؟!
إنها والله كبيرة، فهي مسؤوليتكم أيها الأحبة، مسؤولية كلّ من شهد الشهادتين أن يعمل لدين الله، وأن يكون معينا للمخلصين، لا عقبة مع المثبطين المرجفين، فقوموا إلى أصل عملكم لتصلوا إلى سبب عزّتكم وكرامتكم، فهكذا حال نعيشه بلا كرامة وبلا عزة لهو حال مخز لا يليق بخير أمة أنتم منها... والحمد لله رب العالمين.
رأيك في الموضوع