عندما كانت أمريكا غارقة في عزلتها خلف المحيطات، كانت القوى الأوروبية الاستعمارية (فرنسا وبريطانيا) تقضمان جثة الخلافة العثمانية قطعة قطعة، وتتقاسمان تركتها، وتخططان لمنع عودتها من جديد، حسب معاهدة "سايكس بيكو" الموقعة عام 1916، وفيها اتفقت بريطانيا مع فرنسا - باطلاع وموافقة روسيا - على تدويل فلسطين، على أن "تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين) يعين شكلها بعد استشارة روسيا بالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة"، وذلك لتكون قاعدة للدول الغربية، وجسرا للاستعمار، ولكي يضمنوا عدم عودة الخلافة مرة ثانية.
ثم لما احتجّ زعماء اليهود في أوروبا على فكرة تدويل فلسطين لكونها تتنافى مع فكرة الوطن القومي اليهودي، وذلك بعدما أفشت روسيا سر تلك المعاهدة، أكّدت لهم بريطانيا أن التدويل هو مجرد خطوة مرحلية تكتيكية، وأن بريطانيا ستعمل على إلغاء التدويل، وبهذا تجرأت بريطانيا على إصدار "وعد بلفور" في كانون الثاني من العام 1917، وطمأنت اليهود.
نص الوعد على "تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، وزرعت بريطانيا فيه بذور رؤيتها لحل "الدولة الواحدة"، عندما شرطت أن "لا يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين". وتمثلت الرؤية البريطانية في دولة طائفية يكون فيها اليهود طائفة، ولا تكون فلسطين خاصة لهم، كدولة يهودية، كما يتجرأ اليهود اليوم على المطالبة أمام قادة ما يسمى المشروع الوطني.
تلك الجريمة البريطانية لم تنفصل عن جريمة بريطانيا في هدم دولة الخلافة، ولذلك من الطبيعي القول إن الخلافة وفلسطين توأمان، وإن بريطانيا قضت على الأولى حتى تقضم الثانية، ولا يُتوقع أن تتحرك الجيوش لاستعادة الثانية، بدون عودة الأولى، ولهذا يعتبر الغرب أن بقاء فلسطين تحت الاحتلال، هو نقطة مفصلية في خطتها لمنع الخلافة، ومحاربتها حال قيامها. ولذلك فإن الواجب على الأمة الإسلامية وهي تستذكر جريمة وعد بلفور، أن تستذكر أيضا الجريمة المصالحبة لذلك الوعد وهي القضاء على دولة الخلافة.
وبينما كانت ذكرى تلك الجريمة مبعث غضب شعبي عارم يجتاح أهل فلسطين، داخلها وفيما يسمّى الشتات، وكانت الأرض المحتلة تشتعل تحت أرجل المحتلين بالمظاهرات والمواجهات، صارت تمر كأنّها حدث تاريخي انقضى، بلا أثر على الواقع المعاش! وانفصل التاريخ عن الوعي السياسي، وانفصم العمل السياسي عن حركة الوعي التاريخي على فلسطين وقضيتها، وهذا الانفصال والانفصام هما النتيجة المباشرة لدحرجة قضية فلسطين على منحدر التنازلات، وهو مُخرَج سياسي حرام من جنس السلطة الأمنية التي أنجبتها سِفاحاً منظمة تسمّت بالتحرير بينما مارست المفاوضات طريقا للتنازلات.
واليوم ينشغل قادة المشروع الوطني الاستثماري في التنافس على كعكة السلطة، وفي المحاصصة الفصائلية ضمن المنظمة، بل حتى في التنافس الداخلي على "القيادة"، بينما لم يعد لجريمة بريطانيا ووعدها فسحة كافية في الخطاب السياسي المملول، فغاب الوعي وحضرت المصالح الهابطة!!
ولم يقتصر تغييب الوعي على القادة، بل ساهمت علمية تخريب مناهج التعليم المدرسي، وعملية التأطير السياسي المصلحي، في إنشاء جيل يستبيح الرقص في ساحات الجامعات على الأنغام العاطفية "والسياسية" على حد سواء، وصارت الوطنية أن ترقص أكثر! متناسين جرائم المحتلين ومؤامرات المستعمرين، وخيانات القادة الذين صوّروا "فلسطين" على أنّها دولة "ميكي ماوس" تُرسم على جدران الحارات في الضفة الغربية وأزقة غزة وبعض شوراع القدس الشرقية، بل عند قبة الصخرة فقط (إن تمكنوا من الدخول مستقبلا!)، دون القدس.
وهكذا تمر ذكرى وعد بلفور في غفلة، بينما يصفّق الأتباع لقادة المنظمة الذين أوصلوا فلسطين إلى حالة من التقزيم أحقر مما طرحته بريطانيا في وعدها المشؤوم، إذ قبِلوا بما دون وعد بلفور عبر إنشاء سلطة أمنية تحمي ذلك الاحتلال، بينما تُشغل أجهزتها بأموال الضرائب التي تفرضها على شعب يقمع تحت الاحتلال، فتجعله أرخص احتلال في التاريخ، وتعفيه من أية تكاليف، ومما نصّ عليه وعد بلفور من "الحقوق المدنية والدينية"، وبذلك مثّلوا حالة خيانة وتآمر على فلسطين أفظع من بلفور نفسه.
إن تلك الجريمة النكراء لا تقتصر على بريطانيا، فقد أقرّته فرنسا التي يتعلق قادة المنظمة اليوم بمبادرتها، ويلهثون خلف سرابها. ثم تلتها بالإقرار أمريكا (عام 1919) التي صاغ قادة الفصائل الفلسطينية مشروعهم الوطني على أساس رؤيتها بحل الدولتين، فأي غباء سياسي يُمكن أن يجعل الأتباع يصفّقون لقادة وضعوا القضية على طاولة المستعمرين، وصاروا جنودا سياسيين لهم في تنفيذ رؤاهم الاستعمارية؟!
إن الرد المبدئي على جرائم بريطانيا - ومعها فرنسا وأمريكا - بحق فلسطين والأمة، هو عبر ثورة الأمة على الحكام الذين نصّبوهم على البلاد والعباد، حتى تتمكن الأمة من استعادة إرادتها العسكرية فتخلع الهيمنة الاستعمارية، وتخلع معها الاحتلال اليهودي الذي زرعته خنجرا في صدر الأمة، وتعيد فلسطين كل فلسطين إلى حضن الأمة الإسلامية في ظل الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع