تابع الجميع تداعيات الحادثة الأليمة التي عرفتها مدينة الحسيمة مساء يوم الجمعة 28/10/2016 والتي أدت إلى مقتل الشاب محسن فكري رحمه الله، بائع السمك، طحناً في شاحنة النفايات. كما تابع الجميع الاحتجاجات التي شهدتها عدد من المدن المغربية من الشمال إلى الجنوب بل وامتدادها حتى إلى أوساط الجالية المغربية خارج المغرب.
لقد شعر الجميع بحدة هذه الاحتجاجات ومدى الاحتقان المتراكم لدى المتظاهرين، الشيء الذي دفع العديدين إلى التنبؤ بثورة عارمة أو بوادر ربيع عربي. وفي محاولة لتهدئة الأوضاع، قام الملك بإرسال وزير الداخلية لتعزية والد القتيل، ووعد بفتح تحقيق نزيه ومعمق لكشف كل ملابسات الحادث ومعاقبة المسئولين عنه، أما رئيس الحكومة بنكيران، فكعادته، لم يعلق على الحادث ولم يعلن عن فتح تحقيق...، ولكن طلب من أعضاء حزبه وأنصاره عدم المشاركة في الاحتجاجات، وعُممت رسالة يرجح أنها من الداخلية على وسائل التواصل الإلكتروني بعدم المشاركة بالاحتجاجات لأنها فتنة وجزء من مؤامرة على استقرار المغرب، وأن اتساع رقعة الاحتجاجات يمكن أن يؤدي إلى انزلاق الأوضاع إلى ما آلت إليه سوريا والعراق.
لقد ارتبطت الدعوة للاحتجاجات بهاشتاغ موسوم بالدعوة للطحن مقرون بسب الأم وهي لفظ من ألفاظ دونية اعتاد أفراد السلطة استعمالها في خطابهم للناس، مما حرك الإحساس الجمعي لدى أهل المغرب بالإهانة والظلم، فاستجابوا لدعوات التظاهر رفضا للاستعلاء الذي يمارسه المخزن (أفراد وأعوان الداخلية والدرك والأمن) تجاه أهل المغرب، فالجميع قد ضاق ذرعاً بتجاوزات السلطة التي توزع ظلمها على الكل. وحادثة محسن فكري ليست الأولى، وكلنا يذكر حادثة مي فتيحة بائعة الفطائر التي أحرقت نفسها لأن السلطات سلبتها سلعتها، وحادثة قائد الدروة في نيسان/أبريل الماضي الذي راود امرأة عن نفسها ليسلمها رخصة بناء و...
ولقد سارعت السلطات إلى توجيه قضية محسن فكري وحصرها في الإطار القانوني، ولهذا وعدت بإجراء تحقيق (نزيه) في المخالفات القانونية والإجراءات المسطرية التي أدت للحادثة، لحرف الناس عن الأسباب الحقيقية للحادث وكأن قضية محسن وغيره هي قضية شطط في استعمال السلطة وعدم التطبيق السليم للقانون وللفساد المستشري في الإدارة! ولكن ولكون الحادثة وقعت بالريف الذي يعاني تراكمات القهر والقتل والتشريد والتهميش والحصار الاقتصادي من خمسينات القرن الماضي فإن الاحتجاجات استمرت والقضية لم تُطْوَ كما طويت غيرها، مما اضطر الملك للتدخل شخصيا وبسرعة لعل نار الغضب لا تتوهج فتأتي على الاستثناء المغربي. وفي إجراءات سريعة لكنها محدودة لترضية الناس انخفض سعر سمك السردين من 40 درهما إلى 7 دراهم بمدينة الحسيمة كما وزعت مستشفياتها الدواء بالمجان حسب بعض المصادر الإعلامية وانخفض سعر السمك بـ80%بمدينة وجدة. ومع كل جهود الدولة لاحتواء المظاهرات وخفض سقف مطالبها وترضية البسطاء من الناس بخفض أسعار السمك والتلويح بالفتنة وركوب الأمازيغ الانفصاليين على القضية لتقسيم المغرب، فإن أصوات المحتجين ارتفعت بالطلب بالتقسيم العادل للثروة إلى جانب رفع ظلم المخزن (الدولة) عن الناس، وإنهاء الاستبداد.
لقد دأب المخزن وحواريّوه على التباهي بالاستثناء المغربي مقارنة بما عرفته باقي الدول العربية، والتمنن على الشعب بنعمة الأمن والاستقرار التي تعرفها البلاد، كما دأبوا على تصوير أي حركة احتجاجية على أنها مقدمة لسلب هذه النعمة وإدخال البلاد في دوامة الفوضى، وروجوا لأقوال من مثل "سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم"، وعليه فما على الناس إلا الرضا بحكامهم والسكوت عن ظلمهم فهم على سوئهم أفضل مما ينتظرهم إن تدهورت الأوضاع!
والمخزن يدرك أكثر من غيره أن النار تحت الرماد وأن الاحتقان يزداد وأن الناس ضاقوا ذرعا بالجبر والاستبداد وباستئثار الحاكم وحاشيته بالثروة من دون الناس. وإنه وإن استطاع النظام أن يحتوي الحراك ويخفض سقف مطالبه ويوجهه إلى أن تهدأ الأنفس ولو بعد حين، فإن وعي الناس في تزايد ولن يطول الزمن حتى يتوحد الناس جماعيا على تغيير النظام وليس المطالبة بالتدخل الملكي لرفع الحيف والظلم أو إصلاح هنا أو هناك.
والسؤال الآن: ما هو الواجب تجاه هذه الأحداث؟ الانضمام إليها وتشجيعها أملاً أن تقود إلى التغيير المنشود؟ أم اعتزالها خوفاً من أن تؤدي إلى الفوضى التي لا يتمناها أحد؟
وللإجابة على السؤال، نستعرض الأمور التالية:
- إن القول بأن أي حركة احتجاجية ستؤدي بالضرورة إلى الفوضى بدعوى أن الشعب جاهل وغير منظم هو كلام غير صحيح (أبانت الاحتجاجات في الحسيمة على مستوى راق في التنظيم وحماية الممتلكات الخاصة والعامة، كما أنه نتيجة لتوقف شركة النفايات عن العمل مخافة ردود فعل الناس تولى الشباب عملية تنظيف مدينتهم)، كما أن التعذر بتجنب الفتنة لتبرير السكوت عن الظلم هو أيضاً كلام غير سليم. فالظلم هو الفتنة الكبرى، ولا شيء يبرر السكوت عنه. بل إن السكوت عن محاسبة الحكام هو الفتنة بعينها، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوف وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَعُمُّكُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدُعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ»، فمن معاني الفتنة العقاب والعذاب.
- مما لا شك فيه أن الجميع يتوق إلى التغيير، وإن ومن المؤكد أن حادثة محسن لن تكون الأخيرة ما دمنا نعيش في ظل نظام جبري، والجبر لا ينفك عن أمرين؛ أحدهما عقلية الاستعلاء والاستبداد التي تعشش في عقول مسئولي السلطة، وثانيهما الاستئثار بالثروة من دون الناس.
- المظاهرات السلمية التي لا تعتدي على أملاك وأرواح الناس، إذا استعملت كوسيلة للتعبير عن الاحتجاج، وإسماع صوت المحاسبة للحكام، ودعوة الناس إلى الانضمام إلى قوافل العاملين للتغيير هي عمل مباحٌ بل ومطلوبٌ.
- دماء الناس وأموالهم وأعراضهم محرمة، لا يجوز المس بها، قال e في خطبة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» [متفق عليه].
- مما لا شك فيه وجود أطراف تصطاد في الماء العكر (وأهمها بعض حركات اليسار، والحركات ذات النزعة العرقية الانفصالية)، تحاول الركوب على موجة الاحتجاجات لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية أو حزبية، كما أنه من الوارد وجود أطراف خارجية تأمل في استغلال الأحداث كوسيلة ضغط لتحقيق مآرب معينة.
- إعطاء الاحتجاجات طابعاً عرقياً برفع راية ما يسمى جمهورية الريف، أو اعتبار المشكل صراعاً بين العرب والأمازيغ، محرّمٌ شرعاً لأنه دعوة إلى العصبية المقيتة التي نفّرنا منها الشرع، قال e: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» [البخاري]. أضف إليه أنه مخالف للواقع فالنظام عادل في توزيع الظلم على الجميع شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، عرباً وأمازيغ.
- إن التشخيص العميق لمشكلة البلاد يقودنا إلى وجود الخلل على ثلاثة مستويات:
أ- مستوى التشريع الذي يجعله في يد فئة قليلة تسخره لخدمة مصالحها، فتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء،
ب-مستوى الحكام الذين يعتبرون البلاد ملكاً شخصياً لهم يتصرفون فيها كما يشاؤون دون رقيب ولا حسيب، ويعتبرون العباد خَدَماً لهم لا يملكون من الحقوق إلا ما يجودون هم به عليهم وقت ما يشاؤون بالقدر الذي يشاؤون،
ج- الوسط السياسي التافه المتواطئ الذي يسكت عن الظلم بل ويبرره، ويرضى بفتات موائد الحكام مقابل التسبيح بحمد النظام.
- إن المستويين الثاني والثالث وإن بديا مستقليْن إلا أنهما نتيجة للخلل الواقع في المستوى الأول. فجعل التشريع بيد البشر هو أكبر مصيبة ابتلينا بها ومن هذا الشر تفرعت باقي الشرور. ففي المغرب مثلاً، يعرف الجميع أن القوانين تصاغ بما يرضي المتنفذين، فالقوانين المنظمة لقطاع الطاقة والصحة تصاغ بما يرضي نهم شركات القصر وما/من يدور في فلكها، والقوانين المنظمة لقطاع التعليم تصاغ بما يرضي القطاع الخاص ولوبيات المطابع، وقوانين الفلاحة والصيد البحري تصاغ بما يرضي كبار المستفيدين... وهذا الهامش الكبير من حرية التسلط هو الذي أنتج هذه الطينة من الحكام التي لا تجد حرجاً في فعل ما تشاء بما أنها تستطيع أن تجعل هواها قانوناً يُعاقَب مخالفه بالقضاء.
- إن الحل الحقيقي والجذري لمشاكل المغرب ومشاكل العالم الإسلامي كافة هو الاحتكام إلى شرع الله في ظل دولة الخلافة. فوحدها الخلافة تطبق الشرع على الجميع على السواء، وتوزع الثروة على الجميع على السواء، لا يملك الخليفة (فضلاً عمن دونه) فيها أي حصانة تجعله في منأىً عن المحاسبة، ولا يملك من المال إلا كما يملك أي شخص عادي من رعايا الدولة، ولا يستطيع أن يسن قانوناً يوافق هواه ولا هوى أي جهة بما أن القوانين لا تصاغ إلا استنباطاً من الأدلة الشرعية.
- إن الاحتجاجات يجب أن تستمر بل وتتصاعد بشرط أن تحصن من اختراق المتسلقين والانتهازيين، ومن اختراق الدول الأجنبية، وأن يكون لها قيادة واعية وهدف واضح: تحكيم شرع الله بإقامة الخلافة، أما أن تسخر نضالات الناس وتضحياتهم لتحقيق مصالح حزبية أو فئوية ضيقة أو لاستبدال ظالم بظالم، فهذا مرفوض.
- إن الغرب بعد فترة الاستعمار أراد لنا أن نبقى تحت هيمنته وسيطرته الفكرية والسياسية والعسكرية فنصب علينا حكاما عملاء حكمونا بالحديد والنار، وبعد أن تحركت الشعوب فهو يريد لنا اليوم ديمقراطية وحرية وتغييرا شكليا يديم له سيطرته علينا ويحفظ له مصالحه باسم حكم الشعب، وقد آن الأوان أن ندرك أن خلاصنا هو في الإسلام بقطع كل حبال الكافر المستعمر ولفظ كل رجالات الغرب من بني جلدتنا والتوحد على مشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
- إن أهل المغرب مسلمون وإن أرواحهم وأموالهم وأوقاتهم غالية، وإن بذلها للتغيير الجذري ينبغي أن يكون ثمنه رضوان الله عز وجل وأن لا تبذل رخيصة في تحقيق مشاريع الكافر المستعمر. ورضوان الله في إقامة دينه بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فلهذا فليعمل العاملون.
وفي الأخير نقول: إن هذه الأحداث قد أظهرت ما كنا نقوله دائماً من أن الاحتقان كامنٌ في نفوس الناس كالنار تحت الرماد، يوشك أن ينطلق في أي لحظة، وأن حمق النظام واستمراره في نهجه الظالم هو أكبر محفز لثورة الناس عليه.
رأيك في الموضوع