بعدما كانت السعودية واحدة من أقوى الاقتصاديات في المنطقة بأسرها، وقبلة الباحثين عن المناخ الاستثماري الجيد من قبل رجال الأعمال في شتى بقاع الأرض، ها هو الاقتصاد السعودي يواجه أشرس أزمة له في العقد الأخير، حين يدفعه عجزه المالي، وتراجع احتياطيه النقدي، إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية ضد رعاياه، ثم بعدها اللجوء نحو الاقتراض من البنوك الدولية في خطوة أربكت حسابات الكثيرين.
حيث أشارت تقارير إلى أن الرياض سحبت حوالي سبعين مليار دولار من احتياطها النقدي نتيجة تكاليف عدوانها على اليمن، وتمويل جماعات متطرفة، وأحزاب وشخصيات ودول، إضافة إلى لعب دور محوري داخل منظمة "أوبيك" لخفض أسعار النفط، ما أدى إلى خلق عجز ضخم في الميزانية.
الوضع المالي الصعب الذي وصلت له المملكة العائمة على ثروة نفطية أثار قلق صندوق النقد الدولي، وهو ما دفعه إلى دعوة السعودية إلى إجراء تعديلات للحفاظ على المدخرات، إضافة إلى تقوية إطار عمل السياسة المالية، كما طالب بفرض ضرائب جديدة في البلاد، وتقديم إطار عمل شفاف ورسمي على مستوى الشركات العامة، ودعا الصندوق الرياض إلى إجراء تعديلات تصاعدية في أسعار النفط لتلبية الارتفاع في الطلب الداخلي.
وتسير عجلة الاقتصاد السعودي نحو الهاوية بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة جراء السقوط المدوي لسعر النفط والذي انحدر من 120 دولارًا للبرميل إلى ما دون 48 دولارًا، ما يعني ضربة موجعة للاقتصاد الذي تمثل مبيعات النفط الخام لديه أكثر من 85% من مصدر الدخل.
وبحسب مؤسسة "جدوى للاستثمار" وهي مؤسسة وطنية سعودية، فقد انخفضت الاحتياطات النقدية للمملكة في 2016 إلى أدنى مستوياتها منذ عدة أعوام، حيث وصلت إلى 562 مليار دولار بنهاية شهر آب/أغسطس الماضي، مقارنة بـ611.9 مليار دولار في 2015، و732 مليار دولار في 2014.
كما أعلنت التقارير المالية الصادرة عن المملكة، تسجيل عجز قياسي بموازنتها العامة بلغ 98 مليار دولار في ميزانية 2015، متوقعة تسجيل عجز إضافي بقيمة 87 مليارًا في موازنة 2016، مع توقعات أن يصل العجز الفعلي في نهاية 2016 إلى أكثر من 107 مليارات دولار.
وتضمنت توقعات "جدوى" أن يرتفع الدين المحلي إلى 263 مليار ريال بنهاية العام الجاري، بعد أن كان 142 ملياراً في 2015، ومرجحةً أن يقفز إلى 503 مليارات في 2017، وأن تبلغ نسبته 11.6% و20.1% من الناتج المحلي للعامين الحالي والمقبل على الترتيب.
السندات السعودية وسياسات الرياض الخارجية:
في ظل هكذا أوضاع، ومن خلال ما ورد في صحف ومصادر سعودية عدة، فإن هناك عدداً من الملاحظات ذات الطابع السياسي، وأخرى اقتصادية لا تقول بأن الاقتصاد السعودي بخير.
أولى الملاحظات ذات الطابع السياسي، هي مكان طرح السندات، حيث لم يتم طرحها من خلال بورصة لندن كما أُعلن في البداية، وتم طرحها من خلال السوق الأيرلندية.
وفسَّر مراقبون ذلك، بأن الرياض تعلن بذلك عن غضبها من لندن بعد الانتقادات الكبيرة التي وجهتها دوائر سياسية وإعلامية بريطانية، ومن بينها دوائر حكومية وشبه رسمية، إلى انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، و"الجرائم" التي ترتكبها قوات التحالف الذي تقوده الرياض في الحرب على اليمن، لدرجة وصلت أن دعت بعض الأوساط السياسية والحزبية البريطانية إلى فرض حظر على السلاح المصدَّر إلى السعودية.
الملاحظة السياسية الثانية التي أبرزتها النشرة، وتقول بأن الرياض بدأت تنأى بنفسها عن المحور الأنجلو ساكسوني بالفعل في سياساتها وارتباطاتها الدولية، هو أن الحكومة السعودية وضعت بعض الاشتراطات للمشترين والمتعاملين على الإصدار، حيث فتحته للمشترين من المؤسسة كاملة الأهلية، والمستثمرين الأفراد، ولكن من غير الجنسية الأمريكية.
وشددت الحكومة السعودية، بحسب "الشرق الأوسط" اللندنية، يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، على أن السندات لا يمكن بيعها وتداولها في السوق الأمريكية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنه لا يمكن بيعها لصالح أشخاص يحملون الجنسية الأمريكية.
وكالة "بلومبيرج" الاقتصادية المتخصصة، أشارت إلى ما يؤكد أن الإجراء السعودي في هذا الصدد، سياسي الطابع ومقصود.
النشرة أشارت كذلك إلى أن هناك مشكلات بنيوية في المالية العامة السعودية، وأن الرياض لا تتوقع معالجتها قريبًا.
فمن توقُّعٍ أوّلي بإصدار سندات بعشرة مليارات دولار، وصل الطرح إلى 17.5 مليار دولار، تمت تغطيتها بالكامل وفق صحيفة "الاقتصادية".
وبشكل عام، فقد قُسِّم الطرح السعودي إلى ثلاثة مستويات زمنية، 5 سنوات، و10 سنوات، و30 سنة، وتشمل الشريحة الأولى من القروض (فئة الـ 5 سنوات)، 5.5 مليار دولار، بنسبة فوائد سنوية تبلغ اسميًّا، 2.375%، وفعليًّا 2.588%، والشريحة الثانية (فئة الـ 10 سنوات)، قدرها 5.5 مليار دولار أيضًا بنسبة فوائد اسمية، 3.25%، وفعلية، 3.407%، أما الشريحة الثالثة (فئة الـ 30 سنة)، فتبلغ قيمتها 6.5 مليار دولار، بنسبة فوائد اسمية، 4.5%، وفعلية 4.623%...
والفارق بين معدلَيْ الفائدة الاسمي والفعلي، هو الفارق بين سعر صرف الدولار في الوقت الراهن، والمتوقع خلال فترة الإصدار (5 و10 و30 عامًا)، وهو ما يعني أن السعودية قد تراجعت عما سبق وأن أعلنته بأنها قد تتخلى عن ربط عملتها الوطنية، الريال، بالدولار الأمريكي.
ولكن هناك دوائر سعودية ترى أن الخطوة كانت ضرورية، حيث قادت إلى انتعاش "ضروري" في مؤشر أسهم المصارف السعودية، 3.5%، بعد أن هوى أكثر من 20% منذ شهر نيسان/أبريل الماضي، وإيجاد مصدر جديد للتدفقات الدولارية، وهو ما قاد إلى نتيجتَيْن أساسيتَيْن، الأولى هي وقف الضغط على الريال السعودي أمام الدولار الأمريكي، وكذلك تقليص الضغوط على الاحتياطي السعودي من النقد الأجنبي.
فإذا كان هذا الإصدار قد قاد إلى هذه النتائج الإيجابية في أهم قطاعات الاقتصاد السعودي، مع توقعات باستمرار عصر النفط الرخيص، فإن هذا معناه أولاً، أن الاقتصاد السعودي في الأصل، يعاني من مشكلات هيكلية جمة، وثانيًا، أن غالبية الجهود المبذولة لتنويع مصادر الاقتصاد السعودي، وتخفيف طابعه الريعي؛ قد باءت بالفشل.
ولن تكون هناك حلول جذرية وناجعة لبلاد الحرمين، إلا بتطبيق شرع الله في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، تستثمر خيراتها ومواردها لمصلحة المسلمين، وليس لمصحلة الطغمة الحاكمة.
بقلم: عبد الله النعيمي
رأيك في الموضوع