إن من البلايا التي ابتليت بها أمة الإسلام في العصر الحديث بعد أن فقدت سلطانها المتمثل في دولة الخلافة التي كانت تذوذ عن حياض المسلمين، أن أصبحت قضايانا بيد أعدائنا يبثون فيها لأجل حلها، فجعلوا منها أدوات للابتزاز لتحقيق مصالحهم في بلاد المسلمين. وإن من هذه القضايا التي طالت هي قضية الصحراء حيث إن حلها أوكل لمجلس الأمن لتتحكم فيه أمريكا، الباحثة عن نفوذ لها في شمال إفريقيا.
لقد اتخذت أمريكا قضية الصحراء باباً للنفاذ إلى شمال إفريقيا فاستغلت الصراع بين المغرب وجبهة البوليساريو لابتزاز المغرب لعلها تجد لها موطئ قدم به وإن تظاهرت بتأييده، وقد لمح الملك محمد السادس لهذا الدور الأمريكي في خطابه بالقمة المغربية الخليجية بالرياض حيث قال: (فهم يحاولون حسب الظروف، إما نزع الشرعية عن تواجد المغرب في صحرائه، أو تعزيز خيار الاستقلال وأطروحة الانفصال، أو إضعاف مبادرة الحكم الذاتي، التي يشهد المجتمع الدولي بجديتها ومصداقيتها.ومع التمادي في المؤامرات، أصبح شهر نيسان/أبريل، الذي يصادف اجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء، فزاعة ترفع أمام المغرب، وأداة لمحاولة الضغط عليه أحيانا، ولابتزازه أحيانا.) وزاد من التوضيح فقال: (فقد بلغ الأمر إلى شن حرب بالوكالة، باستعمال الأمين العام للأمم المتحدة، كوسيلة لمحاولة المس بحقوق المغرب التاريخية والمشروعة في صحرائه، من خلال تصريحاته المنحازة، وتصرفاته غير المقبولة، بشأن الصحراء المغربية)... (وماذا يمكن للأمين العام القيام به، وهو رهينة بين أيدي بعض مساعديه ومستشاريه، الذين يفوض لهم الإشراف على تدبير عدد من القضايا المهمة، ويكتفي هو بتنفيذ الاقتراحات التي يقدمونها له. ومعروف أن بعض هؤلاء الموظفين لهم مسارات وطنية، وخلفيات سياسية، ويخدمون مصالح أطراف أخرى، دون التزام بما يقتضيه منهم الانتماء لمنظمة الأمم المتحدة، من واجب الحياد والموضوعية، الذي هو أساس العمل الأممي.) والملك بهذا القول يلمح بالأساس إلى كريستوفر روس الدبلوماسي الأمريكي والمبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء.
هذا هو حال أمريكا تتلاعب بالقضية وترفع من وتيرتها كلما رأت مصلحة في ذلك فسارت بالقضية لإطالتها لأنها لا تبغي حلا وإنما تريد أن تخلف الاستعمار في المنطقة بوجه جديد من باب حق تقرير المصير للشعب الصحراوي. بينما أوروبا وبالأساس فرنسا وبريطانيا فنهجهما هو الإسراع في احتواء ملف الصحراء سدا لكل باب أمام أمريكا كي لا تطردهما من شمال إفريقيا وتستفرد بخيراته.
هكذا هي قضية الصحراء تتجاذبها أمريكا من جهة وأوروبا (فرنسا وبريطانيا) من جهة ثانية وتعاني شعوب المنطقة من استمرار هذا التجاذب تحت صراع موهوم بين الجزائر والمغرب ومطلب كفر به من يروج له وهو حق تقرير المصير للشعوب، وما أحداث كتالونيا عنا ببعيدة.
ولهذا ظلت المفاوضات بين المغرب والبوليساريو، والتي دخلاها بعد وقف إطلاق النار وفشل مخطط الاستفتاء لعدم التوافق حول إحصاء سكان الصحراء بين المغرب والبوليساريو ثم فشل مخططات التسوية الأمريكية بمنح حكم ذاتي للصحراويين يليه استفتاء حول تقرير المصير من خلال مقترحات بيكر، تراوح مكانها. فما كان من المغرب إلا أن انسحب من المفاوضات المباشرة لعبثيتها ومطالباً أن يكون المقترح الوحيد الموضوع على طاولة المفاوضات هو مقترحه للحكم الذاتي الموسع بالصحراء. كما سحب ثقته بكريستوفر روس الذي اقترح حلا فيدراليا يكون مقدمة لاستفتاء عن تقرير المصير أي الانفصال، وبقيت العلاقة بينه وبين المغرب متوترة إلى أن انتهت مدة انتدابه مبعوثا أمميا للصحراء.
وتبعا لهذا الانسحاب وللضغط عليه للعودة لطاولة المفاوضات، عرفت السنوات الماضية صراعا بين المغرب والأمم المتحدة ومن خلفها أمريكا حيث حاولت الأخيرة توسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء بالصحراء (المينورسو) لمراقبة حقوق الإنسان فهدد المغرب بوقف المناورات العسكرية (الأسد) مع أمريكا فتراجعت، وتسلسلت الأحداث والتصريحات حتى صرح الأمين العام بان كي مون السنة الماضية أن المغرب دولة محتلة مما جعل المغرب يتخذ إجراءات بطرد المينورسو والتهديد بسحب القوات المغربية المشاركة بقوات حفظ السلام فتراجع الأمين العام وتراجع المغرب عن بعض إجراءاته، ثم جاءت أحداث منطقة الكركرات في المنطقة المعزولة السلاح والتي وصلت بالبوليساريو لتحريك قواته للمنطقة وتهديده بالعودة لحمل السلاح لكن ما لبثت أن خمدت نار هاته التصريحات.
أما وقد انتخب ترامب رئيسا جديدا لأمريكا والذي اندفع بقوة لجعل منطقة الشرق الأوسط خالصة لأمريكا بمحاصرة قطر والتغييرات بالسعودية لمحاصرة عملاء بريطانيا بها وما يجري من أعمال عسكرية في ليبيا لتثبيت رجلها خليفة حفتر، وكذلك مع انتخاب أمين عام جديد للأمم المتحدة وتعيين مبعوث جديد للصحراء، الألماني هورست كوهلر في آب/أغسطس الماضي، هل سيبقى المغرب على موقفه بعدم العودة للمفاوضات؟
إن أوروبا ضعيفة أمام أمريكا ولا تقوى على التصدي لمشاريعها مباشرة ولهذا يقوم المغرب بمسايرة أمريكا وتلقف اقتراحاتها أو معارضتها لإيجاد حل وسط حولها ثم الالتفاف عليها لإجهاضها وكان ذلك في الاستفتاء وآلية مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء، وهو في الوقت نفسه يعمل بجدية لفرض الأمر الواقع بالسير بخطا متسارعة في مشروعه للجهوية الموسعة مقدمة للحكم الذاتي الموسع بالصحراء تجسيدا لمقولة المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها.
كما أن المغرب يعمل على النفاذ لدول أفريقيا اقتصاديا نيابة عن فرنسا وبريطانيا في مواجهة التواجد الأمريكي وهو يدرك أن أمريكا ستعمل على إشغاله بنفسه داخليا، وقضية الصحراء والأوضاع الإنسانية بالمغرب وحالة حقوق الإنسان كلها أدوات للابتزاز تستغلها أمريكا؛ لهذا سيعمل على التقليل من فاعليتها وتحييدها.
لهذا وبعد جولة كوهلر بالمنطقة منتصف تشرين الأول/أكتوبر ولقائه بطرفي النزاع المغرب وبوليساريو والدول المعنية به، موريتانيا والجزائر، وتصريحه يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بعد اجتماع مغلق عقده مجلس الأمن الدولي للاستماع لآرائه حول الجولة الأولى "يتعين علينا استخدام الديناميكية الجديدة من أجل استئناف العملية برمتها للتوصل إلى حل" (الجزيرة)، كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن الرئيس الحالي لمجلس الأمن السفير الإيطالي سيباستيانو كاردي (أنه "في ما يتعلق بهذا الموضوع المعقد جدا" تحدث هورست كوهلر عن "موقف بناء" من جانب الطرفين وعن "مشاعر طيبة"، مشيرا إلى أنه "سيبدأ العمل"، من دون تحديد الخطوات التالية)، فإنه من غير المستبعد أن يعود المغرب والبوليساريو للمفاوضات، فقد نقلت الأسبوع الصحفي يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أن كوهلر في لقائه بمستقبليه بالمخيمات (كشف عن قبول الطرف المغربي عن "الانطلاق في المفاوضات" مؤكدا أن "الضمانة الملكية في القبول بمبدأ المفاوضات حالة مؤكدة"، مدققا أن الجانب الإنساني يتلقى من العاصمة الرباط "كل التفهم والعمق والشمول لمعالجة أوضاع اللاجئين").
فالراجح بعد هذه المؤشرات أن يعود المغرب والبوليساريو للمفاوضات وأنه في البداية سيدخلها كل طرف مستمسكا بمقترحه، لكن مواقف الأطراف الفاعلة أمريكا وأوروبا (فرنسا وبريطانيا) وألمانيا من خلال كوهلر ومستشاره لقضية الصحراء دافيد شواكي السفير الألماني السابق لجنوب السودان هو الذي سيحدد سيرها وسرعتها.
إن قضية الصحراء ستبقى تراوح مكانها وبؤرة توتر حتى تعود لأهلها، أهل المغرب وإخوانهم بالصحراء، فتحل على ضوء كتاب الله وسنة رسوله e بقطع يد المستعمر الذي يريد تقسيم البلاد الإسلامية وتفتيتها بإقامة كيانات لا تملك مقومات الدولة، وبإقامة الإسلام نظام العدل الذي يجعل من يحمل التابعية لدولة الإسلام كامل الحقوق بغض النظر عن جنسه وعرقه ودينه.
رأيك في الموضوع