الإسلام دين سماوي تضمّن تشريعا سياسيا ينظّم كيان الدولة والمجتمع تحت عنوان الخلافة الجامع، وهو تنظيم تشريعيّ فريد من نوعه، لا يلتقي مع نظرية "العقد الاجتماعي"، التي "أبدعها" فلاسفة الغرب واستلهمتها الثورة الفرنسية فلسفةً للتغيير، ثم صارت مثلاً أعلى "للتحرر الديمقراطي" من الاستبداد (الإقطاع والكنيسة). والتشريع الإسلامي تنظيم رباني لا يتقاطع مع أيّ من إفرازات "الحضارة الغربية"، بل يتصادم مع كل ذلك جملة وتفصيلا. هذا المقال يدلل على احتدام ذلك الصدام الحضاري، ويناقش أسباب تخوف الدول الرأسمالية من عودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وما تمثله من تهديد لمصالح تلك الدول.
ليس ثمة شك أن عورة الرأسمالية تزداد انكشافا في مجالات الاجتماع والاقتصاد بعد السياسة، وتفشل في أية منافسة مبدئية أمام الإسلام، ولذلك فهي تدرك خطورة المنافسة السياسية والعسكرية في حال انبثاق دولة الخلافة ككيان حقيقي يوحد الأمة الإسلامية. ومن هنا فإن التخوف الرأسمالي من الخلافة أمر ملموس محسوس، وله أسبابه ودوافعه.
ومن الواضح أن الصدام فكري سياسي، وهو ذو بعد عسكري، يصبح أكثر وضوحا عند تحرير جيش الخلافة من هيمنة الحكام الحاليين. ونتيجة الخواء الفكري الغربي، احتاج قادة الاستعمار الغربي لخوض ذلك الصراع تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"، واستخدم بعض قادتهم (مثل بوش الابن) مصطلح "عقيدة الكراهية" لوصف الإسلام، في محاولة للنيل المبدئي منه.
وضمن هذا الصراع، يخوض الغرب الحروب العسكرية ويريق فيها دماء المسلمين، ويحوك المؤامرات السياسية لمنع الأمة الإسلامية من الانعتاق من هيمنته ومن الوحدة وتحكيم الشريعة ضمن إطار الخلافة، وما يجري في الشام شاهد على تتابع المؤامرات مع الحروب، لما تمثله من فرصة مرشحة لتكون نقطة ارتكاز لانبثاق الخلافة التي تغير مجرى التاريخ.
وبسبب الطبيعة الرأسمالية النفعية، فإن الغرب إذ يصارع من أجل البقاء (المبدئي)، فإنه يدرك أن المبدأ الرأسمالي هو الوعاء الذي يحقق من خلاله مصالحه الاقتصادية، ولذلك فهو يستمر في صراعه تحت مظلة الهيمنة الاقتصادية، التي تحرم المسلمين من مقدراتهم ومواردهم الطبيعية، وتبقيهم عالة على الغرب.
إذن عندما نتحدث عن الأسباب الكامنة وراء محاربة الغرب الرأسماليّ "لفكرة"، وهو يدرك أنه لا يمكن لجيش جرار أن يهزم فكرة، لا بد أن نؤكد أن الأسباب الاقتصادية الرأسمالية تتصدرها، وتجتمع معها الدوافع الاستعمارية، مع شحنة الحقد الصليبي الدفين، وتقديس مبدئي لحضارة الغرب، التي أفرزها صراع فلاسفته مع رجالات الكنيسة والإقطاع.
كثيرة ومتواترة هي التصريحات السياسية التي كشفت عن هذا الصراع الغربي ضد الخلافة وفكرتها، وأخذت بالظهور أكثر خلال العقدين الأخيرين، منذ ما بعد الحرب الأمريكية على العراق، ومنذ أن ألّف الفيلسوف الأمريكي فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ"، الذي اعتبر فيه أن الديمقراطية وقِيَمها في الحرية والفردية وسيادة الشعب، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشكِّل "مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان"، ومن ثم أعلن انتصار "عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية":
- لم يستطع خبث بريطانيا إخفاء ذلك الصراع، فكشف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير تخوف بريطانيا من الخلافة في المؤتمر العام لحزب العمال بتاريخ 16/7/2005، ثم تبعه وزير داخليته كلارك، عندما قال في معهد هيرتيج في 6/10/2005: "لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات حول إعادة دولة الخلافة، ولا مجال للنقاش حول تطبيق الشريعة الإسلامية".
- وكرر الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن التخويف من الخلافة في أكثر من مناسبة، منها ما قاله في مؤتمره الصحفي في البيت الأبيض في 11/10/2006: "إن وجود أمريكا في العراق هو لمنع إقامة دولة الخلافة التي ستتمكن من بناء دولة قوية تهدد مصالح الغرب وتهدد أمريكا في عقر دارها". ثم كشف عن طبيعة الصراع المبدئي، فقال: "إن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية ولا بالحريات".
- ولم تستطع "نعومة" أوباما، ولا طبيعة "القوى الناعمة" التي يفضّلها حزبه الديمقراطي، من إخفاء تلك العدائية الأمريكية ـ وقال ضمن مقابلة في صحيفة نيويورك تايمز في 8/8/2014: "لن نسمح لهم بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق" (الجزيرة نت 9/8/2014). وكذلك فعلت هيلاري كلينتون عندما كشفت لمحطة جيو الباكستانية في 8/12/2009 عن طبيعة الصراع وعن قلقها من العمل للخلافة في باكستان (وذلك عندما شغلت منصب وزيرة الخارجية الأمريكية).
- ولم تكن الخلافة غائبة عن تصريحات وزير الخارجية السوري، المعلم، ولا وزير خارجية روسيا، لافروف، خلال الحراك السياسي لمواجهة ثورة الشام، ولا يتسع المقال لسردها.
هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى الفكري:
- فإن هذه الخلفية الفكرية - السياسية دعت الصحفي الأمريكي جو شيا إلى استشراف المستقبل، ومن ثم دعوة الرئيس الأمريكي إلى حتمية المصالحة مع الخلافة، تحت عنوان: "الحرب ضدَّ الخلافة"، وقال فيه "إنَّ المعركة بين الإسلام والغرْب معركة حتميَّة لا يمكن تجنُّبها، وهي ذاتُ تاريخ قديم".
- وفي الفترة نفسها، وقبيل انبلاج فجر "الربيع الثوري" كتب المفكر القبطي رفيق حبيب مقالاً يدلل على هذا الصراع وطبيعته، بعنوان: "الإسلام الجديد... مشروع بلا خلافة"، (موقع أخبار العالم في 12/2/2010)، قال فيه "في قلب المعركة بين العولمة كمشروع غربي، والمشروع الحضاري الإسلامي، نجد مسألة الخلافة الإسلامية في مرمى النيران. فهي الحاضر الغائب في كل معارك الغرب مع الحركة الإسلامية، وفي كل معارك العلمانية مع المشروع الإسلامي، وأيضاً في معارك النخب الحاكمة".
- وكان الكاتب الأمريكي نوح فيلدمان (أستاذ القانون بجامعة هارفارد الشهيرة)، قد ألّف كتابا بعنوان "سقوط وصعود الدولة الإسلامية" أكد فيه وجود تأييد جماهيري لتطبيق الشريعة الإسلامية مما يؤدي - حسب تقديره - إلى إيجاد خلافة إسلامية ناجحة.
- وعلى الطرف الآخر من العالم، صدر كتاب "روسيا.. إمبراطورية ثالثة"، للكاتب الروسي "ميخائيل يورييف"، الذي شغل منصب نائب رئيس مجلس النواب الروسي، رسم على غلافه خارطة العالم المستقبلية، تضمنت انبثاق خمس "دول حضارية" (حسب وكالة أنباء نوفستي الروسية الرسمية في 19/2/2009)، شملت دولة الخلافة الإسلامية.
خلاصة القول إن الصدام والمواجهة بين الرأسمالية والخلافة، أمر حتمي، يندفع فيه الغرب مشحونا بطاقة الحقد الصليبي، وبخلفية استعمارية لا تكترث لقيمة الأرواح، بينما يسعى المسلمون لخيرية البشرية بما لديهم من نور الهداية الربانية والتشريع الذي ينقذ العالم من مصائب الرأسمالية وأزماتها.
وقد يعتبر بعض المتابعين "والمتفرجين" أن التطلع للخلافة هو مجرد اندفاع شعوري للهروب من الواقع المؤلم، أو رجما بالغيب، ويتجاهلون كون العمل لها فرضاً شرعياً كما فروض العبادات الروحية، ويتجاهلون أمام الهجوم الغربي أن الخلافة هي التنفيذ الطبيعي لأحكام الإسلام (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وأنها المعنى الوحيد للحكم بما أنزل الله، ولتحكيم الشريعة. والأكثر بلاغة من ذلك كلّه أنهم لا يدركون قيمة هذه الفرصة التاريخية النادرة للعمل لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع