يتابع العالم منذ أشهر أخبار المفاوضات التي ترعاها أمريكا بوساطات من مصر وقطر لأجل التوصل إلى اتفاق بين حركة حماس وحكومة كيان يهود بشأن الحرب على غزة. ويُلاحَظ أن أمريكا لا تفتأ تصرح منذ بداية هذه المفاوضات أنها إيجابية، وتتقدم. ومع ذلك تمر الأشهر بغير طائل، ويُلاحظ أيضاً صدور تصريحات من أعلى المستويات الأمريكية بأنّ نتنياهو وافق على مشروع الاتفاق وأن حماس هي التي تعرقل، في حين يكرر نتنياهو نقض هذه التصريحات بشكلٍ فاضحٍ للإدارة الأمريكية.
لقد سبق أن تم الاتفاق على هدنة بين حماس وكيان يهود لمدة أسبوع انتهت مع نهاية تشرين الأول 2023، وتم خلالها تبادل أسرى، ثم استأنف بعدها جيش يهود مجازره في غزة مدعوماً من أمريكا والغرب وحكام العرب وعلى أعين العالم. وقد حرك هذه الأمر شعوب العالم وبخاصةٍ في بلاد الغرب ضد هذه المجازر وضد دعم حكومات بلادهم لها. وطالبت منظمات دولية بوقف هذه الحرب، وكانت أمريكا ترفض كل مبادرات وقفها وتدعم كيان يهود بالسلاح والمال والغطاء السياسي والفيتو، ما أكد أن الحرب على غزة هي حربها.
وتحت وطأة حجم هذه المجازر، والتحركات الرافضة لها في العالم، وتداعيات ذلك ضد اليهود في الغرب، أخذت أمريكا تدّعي أنها ساعية في وقف هذه الحرب، وتقوم بأعمال في هذا الأمر لا ينتج عنها سوى إشغال الإعلام والناس بأعمال ظاهرها الإنسانية وقصد وقف الحرب ومساعدة أهل غزة، وحقيقتها قطع الوقت ريثما يُنهي جيش يهود مهمته في غزة. فقد كانت كل مقترحاتها لأجل ذلك غير جادة، ومتحيزة ليهود، وتستهدف القضاء على حماس. وقد صرح بذلك مسؤولون أمريكيون ويهود قالوا إن الحرب يمكن أن تقف غداً إذا استسلمت حماس وتم القضاء على قدراتها العسكرية وتم الإفراج عن الرهائن.
لقد بدأت هذه التحركات الأمريكية أواخر كانون الثاني 2024، أي منذ أكثر من 7 أشهر، واستمرت على وتيرتها منذ ذلك الوقت إلى أن ظهر فشل أمريكا وعجز كيان يهود، ولاحت أخطار اتساع الحرب وما قد يؤول إليه ذلك من تغييرات قد تُضعِف الهيمنة الأمريكية والغربية في المنطقة والعالم. فتحرك الاتحاد الأوروبي منتقداً انتهاكات كيان يهود ومطالباً بوقف الحرب والسير في حل الدولتين. وصدرت مذكرة المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو وغالانت، وتبعها قرار المحكمة الدولية بإدانة الممارسات اليهودية ووقف الحرب.
ورغم الانزعاج الأمريكي من هذا الموقف ومما صدر عن المحكمتين، فقد سارع الرئيس الأمريكي إلى إعلان مبادرة في 31 أيار، وأعلن أن نتنياهو وافق عليها وأنها من مقترحاته أصلاً. وكان هذا كذباً مفضوحاً زاده الأخير فضحاً بإعلانه رفض المبادرة.
ولا يخفى على المدقِّق في هذه المبادرة وما لحقها من تعديلات أنها غير جادة، ومليئة بالمخادعة، حتى في تسميتها بأنها لوقف إطلاق النار، وهي في الحقيقة هدنة مؤقتة تخدم نتنياهو وحكومته بالتخفيف من ضغط أهالي الأسرى، وتخدم الإدارة الأمريكية أمام المعارضات الغربية والشعبية ضد الحرب، وفي فترة الانتخابات الأمريكية. أضف إلى ذلك أنها تُسوِّغ استئناف الحرب، وتمنح أمريكا ويهود فترة استراحة لمراجعة أسباب الفشل ومعالجتها، وترميم الجيش.
ويلمس المتابع لهذه المفاوضات أنها طبخة بحص لا يمكن أن تؤدي إلى اتفاق على وقف الحرب، وأقصى ما يمكن أن تحققه هو هدنة قصيرة لا تحقق أكثرَ من تبادل أسرى، واستراحةً تتيحُ للطرفين إعادة انتشار. وذلك لأن مباحث هذه المفاوضات هي تبادل الأسرى، ووقف إطلاق النار، وانسحاب جيش يهود من غزة.
أما مفاوضات تبادل الأسرى فليست مانعاً رئيسياً من الاتفاق ولا هي سبب مطمطة المفاوضات.
أما وقف إطلاق النار، وهو عنوان المبادرات والمساعي، فهو محل المناورات واستعمال التعابيرِ المطاطة حمالةِ المعاني. ومن الواضح أن المقترحات الأمريكية لا تنص على وقف الحرب، وإنما على هدنة يتم خلالها التفاوض لوقف الحرب، وتسمح أيضاً بالعودة للحرب بعد انتهاء الهدنة. وهذا ما يؤكده بوضوح قادة كيان يهود، ويصرون على استئناف الحرب لتحقيق ما يسمونه الانتصار الحاسم لهم ولأمريكا.
وفي المقابل، تعلن حماس رفضها أي اتفاق لا يتضمن إنهاء الحرب. والراجح هنا أن هذا الرفض والإصرار عليه هو من باب رفع سقف المطالب وليس هو شرطاً ينسف الاتفاق، لأنه ليس لهذا الشرطِ تأثيرٌ عمليٌّ على الأرض. فيهود لا عهد لهم ولن يفوا بهكذا شرطٍ ولو التزموه. وستكون أمريكا معهم في نقضه، لأنه يتناقض مع هدفها من هذه الحرب، ولن تعوزهما الذرائع لنقضه. وحماس تدرك أن مثل هذا الشرط لا يضمن شيئاً لها ولا لغزة، وأنّ ضمانتهم هي أن يحذَروا ويظلوا على أسلحتهم.
إنّ الشرط الأهم للطرفين في هذه المفاوضات هو انسحاب جيش يهود من غزة، من محور نتساريم داخل القطاع، ومحور فيلادلفيا عند الحدود المصرية، وهذا الأمر بمثابة العقدة في المنشار. ولذلك نجد أن كل الطروحات الأمريكية متوافقة مع موقف نتنياهو بعدم الانسحاب. وإذا أظهرت أمريكا أيَّة ليونة بهذا الشأن فهي طفيفة ومع ذلك يرفضها نتنياهو. ويصر يهود على بقاء مراكز لجيش يهودي في نتساريم بذريعة ضمان عدم نقل أسلحة ومقاتلين إلى شمال القطاع ويوافقهم الأمريكان على ذلك، الأمر الذي ترفضه حماس وتصر على انسحاب كامل لجيش يهود من غزة.
أما إصرار أمريكا ويهود على عدم الانسحاب من غزة، فهو لأن احتلال هذين المحورين هو مكسبهم الوحيد في حربٍ قاربت السنة، كبَّدتهم خسائر ضخمة، وعرَّضتهم لاحتمالات فشل وتغييرات خطيرة في المنطقة، بعد أن كانوا يتوقعونها بضعة أسابيع للسيطرة على كامل القطاع، فهل يقومون بهذا الانسحاب وهم يخططون لاستئناف حربهم بعد الهدنة إذا حصلت والسيطرة الكاملة على غزة! وقد قال نتنياهو: "إنّ انسحاب (إسرائيل) من محور فيلادلفيا سيضع علامة استفهام كبيرة بشأن قدرتنا على العودة إليه". (موقع الجزيرة).
ولذلك، فإن تحركات كبار المسؤولين الأمريكيين لأجل هذه المفاوضات، ووساطات مصر وقطر، وما في ذلك من أخبار وتسريبات، هي جعجعات بغير طحن. وما يزعمه الأمريكان عن تقدم فيها هو كذب. وما يعلنه مسؤولو حماس تارةً أنهم وافقوا على مبادرة بايدن وتارةً أنهم يريدون العودة إلى ما تم الاتفاق عليه في 2 تموز غير صحيح، وهو كلامٌ حمّال معانٍ. والعقدة هي بقاء أو انسحاب جيش يهود من غزة.
فالمخادعة هي سمة هذه المفاوضات، والتكاذب هو سمة المفاوضين فيها، ما يعني أن الأمور ليست إلى حلٍّ، بل إلى تصعيد، مهما كان بطيئاً. وقد يقود الفشلُ أمريكا إلى أعمال انتقامية كبيرة. والذي يجري في المحصِّلة هو أن الحرب مستمرة، ومجازر يهود وأمريكا في أهل غزة مستمرة، ولا علاج لها إلا قيام المسلمين بأنفسهم بتغييرات تقلب الأمور رأساً على عقب. والله المُوَفِّق والهادي إلى سواء السبيل. ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بَأنْفُسِهِمْ﴾.
بقلم: الدكتور محمود عبد الهادي
رأيك في الموضوع