في خطابه عن حالة الاتحاد، أعلن الرئيس الأمريكي بايدن عزم أمريكا على إنشاء ميناء مؤقت لإيصال المساعدات إلى قطاع غزة عبر البحر، بحيث يشمل ملاجئ مؤقتة ومستشفيات عائمة. وكانت وزارة الدفاع الأمريكيّة قد أوضحت أن بناء هذا الرصيف سيستغرق مدة قد تصل إلى ستين يوما، وسيشارك فيه أكثر من ألف جندي على الأرجح، لافتة إلى أن الميناء المؤقت "يمكن أن يؤمّن أكثر من مليوني وجبة يوميا لمواطني غزة. وخلال أقل من 36 ساعة بعد الإعلان، أبحرت السفينة "الجنرال فرانك إس بيسون" التابعة للجيش الأمريكي" التي تحمل المعدات الأولى لهذا الميناء المؤقت قبالة سواحل غزة.
ومن المفترض أن يربط بهذا الميناء جسر مؤقت طوله 550 مترا لإفراغ الحمولة على الشاطئ، وسيكون الميناء قادرا على استقبال السفن الكبيرة التي تحمل المساعدات القادمة من ميناء قبرص، حيث يتم الفحص الأمني بالتنسيق مع كيان يهود.
ما إن انطلق الإعلان حتى اختلف المراقبون في تناول أهداف الميناء، مع اتفاق الجميع تقريبا على خبث البواطن، ووجود الخفايا في الأهداف الأمريكية، وخاصة مع توفر البدائل البرية والمعابر التي تغني عن إنشاء الميناء، ومع وجود القدرة الأمريكية على الضغط على كيان يهود لفتح تلك المعابر أمام الآلاف من الشاحنات المكدسة بالمساعدات، وقد ظهرت تخوفات وتكهنات عدة، فمن قائل يقول بأن الميناء للتهجير، وقائل بأنه مقدمة لإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية، ومنهم من أشار إلى أطماع أمريكية في غاز المتوسط، وآخرون يرون أن الغرض هو انتخابي دعائي لتبييض وجه الإدارة الأمريكية.
أما بالنسبة لكيان يهود، فقد أعلن موافقته وترحيبه لبناء الميناء، ولكن حسب بعض مسؤولي الكيان فقد كان هذا الإعلان تعبيرا عن ضيق الأمريكان من نتنياهو والذي لم يكن له خيار بالرفض، خصوصا وأن الإعلان قد تم في سياق الكلام عن المجاعة وأجواء التركيز عليها عالميا، وعندما سئل بايدن عمن سيتولى تأمين الميناء والرصيف قال: "الإسرائيليون"، بطريقة توحي بفرض الأمر وسحب الذرائع.
إن الميناء الذي يجري الكلام عنه لتدفق المساعدات إنما يتم فهمه في سياق السياسة الأمريكية خلال حرب غزة، وكجزء منها وليس بمعزل عنها، حيث لا فرق في تلك السياسة بين دعم كيان يهود بالسلاح والتغطية على مجازره في مجلس الأمن، وبين جولات بلينكن والكلام عن المساعدات أو تنفيذ مشروع الميناء، فكلها تفاصيل منسقة تخدم الرؤية ذاتها، وليس فيها أي ناحية إنسانية أو إغاثية، فإنشاء الميناء ليس حلا مرتبطا بالمجاعة الواقعة الآن، إلا إعلاميا، لأن الكلام عن إنشائه بعد شهرين ليس خطة عاجلة لأجل مجاعة، وذلك على الرغم من أن المجاعة والنواحي الإنسانية أصبحت عنصرا ضاغطا، سواء في الداخل الأمريكي انتخابيا، أو في الضغط الأمريكي على كيان يهود، ولكنها بكل الأحوال يجري توظيفها، والناحية السياسية هي الحاضرة في هذا المشروع، وليست الناحية الإنسانية ولا حتى اللوجستية.
إن مشروع الميناء هو جزء من إدارة الحصار على غزة وإدارة الإنهاك لأهلها، لإدارة التحكم فيها لاحقا، وهي طريقة لتثبيت نتائج الدمار وحصد ثماره، بحيث لا يسع الناس والجوعى إلا التفكير بوقف القتل والدماء وسد الرمق، وبحيث تكون المساعدات هي المدخل الأمريكي للتدخل المباشر أو شبه المباشر، ومثلها جهود إعادة الإعمار لاحقا، وللأمريكان تاريخ طويل خبيث في ذلك، خاصة وأن تدفق المساعدات يستلزم جهات معينة لتأمينها وتنظيم توزيعها، ويستلزم جهوداً وسياسات، تستبعد منها حركة حماس، ليلغى حضورها من أي شأن في إدارة القطاع عمليا، كمقدمة لإلغاء حكمها وإقصائها من حياة الناس المدنية، بالتوازي مع محاولات القضاء عليها عسكريا، والتمكين لجهات أخرى من إدارة المساعدات، وقد أوردت صحيفة إن بي سي نيوز الأمريكية القول "إن المسؤولين الأمريكيين يرون مجموعات وفصائل في غزة منفصلة عن حماس، يمكنها أن تقدم المساعدة، على أمل أن يؤدي ذلك لإرسال رسالة إلى حماس بعدم التدخل في المساعدات، وفقا للصحيفة".
ومن ناحية أخرى قد يكون من الوارد ارتباط هذا المشروع بخطة أمريكا في موضوع حل الدولتين، وما يسمى باليوم التالي لغزة، خاصة وأن فكرة تحول الميناء لاحقا إلى منشأة تجارية دائمة قد طرحها بعض المسؤولين الأمريكان، ومن الوارد أن تسلم لإدارات يليها وجود للسلطة، بحيث تكون حجر الأساس لميناء ضمن دولة فلسطينية حسب الرؤية الأمريكية، وهذا الميناء وإن كان مؤقتا من حيث التسمية إلا أنه يظهر أن مداه طويل، وقد يكون نواة للميناء الذي طالما جرى الحديث عنه عبر العقود والسنوات الماضية في غزة.
إن من المؤلم أن يتم التحكم بالمسلمين من أهل فلسطين، وأن يتم حصارهم على مرأى من الأمة كلها، من قبل عدوهم وعدو الأمة من يهود وأمريكان، وأن يكون قرار القتل والدمار، أو التجويع والحصار، أو حتى المساعدات والإغاثات، هو قرار بيده حصرا وحكرا، بينما أدوار حكام المسلمين العملاء، لا تعدو أن تكون أدواراً تنفيذية لرؤى الأمريكان والكفار الغربيين، كدور الخادم الذليل لسيده.
ومع أن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، وقد حرم أن يكون للكفار على المسلمين سلطان وتحكم في شؤونهم وأرضهم، ومائهم وبحرهم، عوضا عن طعامهم وشرابهم، وأنفسهم وأرواحهم، إلا أن حكام المسلمين قد جعلوا كل أنواع السبل للكفار على المسلمين، ومكنوهم منهم، بل وشاركوهم بدور قذر، وظاهروهم في محاولة القضاء على الحالة الجهادية التي قامت في غزة، تلك الحالة التي ألهمت الأمة كلها، فكانوا ضباعا ينهشون جسد أمتهم بينما عدوها يحاول افتراسها.
لو كان للمسلمين دولة وخلافة، وحاكم ينتمي لأمته، لا عميلا لعدوها، لما كانت إغاثة أطفال غزة من الجوع تتوقف على قرار من بايدن، ولا كانت أرض الإسراء وسواحل غزة والشام مرتعا لأساطيل الغرب، ولا موطئا لموانئهم، ولا مصير أبنائها معلقا بخططهم، فدولة الإسلام، وعسى أن تكون قريبة، قد باتت ضرورة للمسلمين في بقائهم، عدا عن كونها عزتهم ورفعة دينهم.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
رأيك في الموضوع