ما زالت المفاوضات بشأن الحرب على غزة تراوح مكانها، رغم كل التصريحات واللقاءات والمؤتمرات هنا وهناك؛ مرة في مصر، ومرة في قطر، ومرة في باريس، ومرة في واشنطن...
فقد صرح الرئيس الأمريكي بايدن، قبيل يوم واحد على خطابه المسمى بخطاب الاتحاد 7/3/2024 للكونغرس الأمريكي في مبنى الكابيتول: "لا تزال هناك فجوات؛ لكنني شجعت القادة (الإسرائيليين) على مواصلة العمل للتوصل إلى الاتفاق، وستبذل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لتحقيق ذلك".
أما وزير خارجيته بلينكن فقال بعد الخطاب الذي ألقاه بايدن في الكونغرس: "إن الأمر يتوقّف على حماس.. الكرة الآن في ملعبهم". وقال: "إن واشنطن ما تزال تضغط من أجل تطبيق وقف لإطلاق النار". وأضاف "المشكلة هي حماس. المشكلة هي إذا ما كانت حماس ستقرر أم لا تطبيق وقف لإطلاق النار سيفيد الجميع". وفي بيان صادر عن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) في 9/3/2024، جاء فيه: "إن الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة مستمرة، على الرغم من تضاؤل الآمال في التوصل إلى هدنة خلال شهر رمضان" وأضاف "أن حماس تتمسك بموقفها، وتسعى لتصعيد العنف في المنطقة خلال شهر رمضان". وقال: "إن الحرب لن تنتهي إلا بالقضاء على حماس".
أما رئيس وزراء كيان يهود نتنياهو فقال ردا على محادثات القاهرة الأخيرة: "إن (إسرائيل) لم تتلق في القاهرة أي اقتراح جديد من حماس لإطلاق سراح مختطفينا. وأكد على أن (إسرائيل) لن تخضع لمطالب حماس "الوهمية"، وقال إن التغيير في مواقف حماس فقط سيسمح بإحراز تقدم في المفاوضات".
وذكرت صحيفة الشرق الأوسط في 10/3/2024 عن القيادي في الحركة، سامي أبو زهري: "إن تل أبيب "أفشلت" كل جهود الوسطاء للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، خلال المحادثات التي استمرت أربعة أيام؛ واستضافتها القاهرة. وأضاف أبو زهري، بحسب ما أوردت رويترز، الخميس، أن "(إسرائيل) ترفض مطالب حماس بوقف العدوان، والانسحاب وضمان حرية دخول المساعدات وعودة النازحين".
فما الذي يجري حول هذه المفاوضات، رغم مرور خمسة أشهر على بداية هذه الحرب الإجرامية، ورغم مرور حوالي أربعة أشهر على بداية المفاوضات الأولى في شهر 11 من السنة الفائتة للتوصل إلى اتفاق تهدئة وإطلاق سراح الأسرى؟!
وقبل أن نذكر بعضاً مما يجري في هذه المفاوضات، والأهداف السياسية منها، وما يكتنفها وأسباب الفشل للتوصل إلى اتفاق من خلالها، نورد بعض المرتكزات المتعلقة بملف المفاوضات من أجل المحتجزين والحالة الإنسانية كما يسمونها ووقف إطلاق النار والانسحاب من غزة:
- هناك حالة من المناكفات السياسية والصراعات بين الحزبين في أمريكا قد أثرت على قدرة الحكومة الأمريكية في ممارسة ضغوطات على حكومة يهود؛ وقد برز هذا الأمر في مسألة المساعدات لكيان يهود التي تقدم بها الحزب الجمهوري، ورفضها الحزب الديمقراطي بطريقة التفافية عندما قرنها بموضوع المساعدات لأوكرانيا وتايوان ومسألة الهجرة!
- حكومة كيان يهود ومن خلفها معظم اليهود ما زالت مصرة على القضاء على حماس عسكريا، وتأمين المستوطنات حول غزة فيما يسمى بغلاف غزة؛ وهذا الأمر يكاد يكون إجماعاً عند العسكريين والسياسيين في كيان يهود.
- هناك حالة من الضعف السياسي في الحكومة الأمريكية بسبب قرب فترة الدعاية الانتخابية وبسبب المشاكل المتعثرة التي يواجهها بايدن في فترة رئاسته، منها قضية الحرب في أوكرانيا والمشاكل الاقتصادية، ومشكلة الهجرة إلى الولايات عبر الحدود.
- حكومة كيان يهود عبارة عن خليط سياسي أو هجين غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في مسائل سياسية كبيرة؛ تتعلق بحل الدولتين أو بقبول حماس داخل السلطة الفلسطينية. وهناك إجماع في هذه الحكومة على رفض التنازل تجاه هذه القضايا الحساسة.
ومن خلال هذه المعطيات والركائز نقول: إن ما تطرحه أمريكا من موضوع حل الدولتين ودمج حماس في منظمة التحرير يواجه معضلة كبيرة، ورفض من قبل اليهود، خاصة بعد أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لذلك فإن السياسة الأمريكية صارت تركز على أمور معينة تتجاوب معها حكومة كيان يهود، وتحاول ممارسة ضغوطات كثيرة دبلوماسية من أجل ذلك. وهذا ما يفسر تصريحات البيت الأبيض تجاه حماس بأنها هي المشكلة رغم أن ما تطرحه في المفاوضات هو أقل من القليل في موضوع إنهاء الحرب والإفراج عن المحتجزين.
لقد أصبح التركيز لدى الإدارة الأمريكية منصبا على تحقيق إنجازات انتخابية، وليس على إيجاد حلول، وأصبح كذلك هروبا من الضغوطات الداخلية والعالمية بسبب الحالة الإنسانية التي شوهت صورة الولايات المتحدة نتيجة وقوفها أمام أي قرار يهدف إلى فرض وقف إطلاق النار في غزة!
إن موضوع الفشل الذي صار يكتنف موضوع المفاوضات أصبح حالة وصفية لهذه المفاوضات بسبب إصرار حكومة كيان يهود، وبسبب ممارسة الضغوطات على حركة حماس من قبل أمريكا وعملائها في مصر وقطر وتركيا وغيرها.
وأصبح هناك واقع من العمل والمؤامرة الدولية على إنهاء وجود حماس العسكري لتكون حزبا سياسيا فقط يندمج مع منظمة التحرير؛ لتمرير ما تريده أمريكا من موضوع حل الدولتين، وإيجاد الاستقرار السياسي والتطبيع مع جميع دول المنطقة؛ حتى تتمكن أمريكا من البدء في مشاريعها الكبيرة في الممرات المائية والبرية لقطع الطريق على الصين من جهة، ولإبقاء أوروبا تحت جناحها الاقتصادي من جهة ثانية.
وقبل أن نختم نقول: إن هذه المحادثات عقيمة، وهدفها إنهاء وجود حماس العسكري، رغم أنها مبطنة بالنواحي الإنسانية والإفراج عن المحتجزين، وهذا الهدف يوجد عليه اتفاق دولي مع أمريكا وكيان يهود وعملائهم من الحكام. لكن نقطة الخلاف مع كيان يهود، وهي ما تسبب التعثر، هو موضوع حل الدولتين، ودمج حماس السياسية مع منظمة التحرير كمقدمة لإيجاد الاستقرار السياسي والتطبيع، فهذا ما يفشل التقدم نحو أي مفاوضات أساسية.
وفي الختام نؤكد على الأمور التالية:
1- إن مثل هذه المفاوضات لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة سوى الإذلال والتآمر من قبل حكام المسلمين أدوات أمريكا ومن قبل دول أوروبا وغيرهم.
2- إن ما يتعلق بالتخفيف على أهل غزة لا يجوز شرعا أن يتخذ ذريعة من قبل أي طرف من الأطراف لتنازلات تتعلق بالقبول بالاعتراف بكيان يهود، أو بمنظمة التحرير، أو بحل الدولتين مهما كلف ذلك من شهداء ودماء وأشلاء!
3- إن أمريكا مصممة على بعض الأمور السياسية منها حل الدولتين، ومنها دمج حماس في الجناح السياسي؛ وهي تتبع الضغوطات السياسية من أجل ذلك، مثل محكمة الجنايات الدولية، أو تفعيل الدور الأوروبي ضد جرائم اليهود، أو استغلال حالة الرفض داخل الشعب الأمريكي، وداخل المؤسسات الأمريكية مثل الكونغرس وبعض المنظمات الحقوقية.
وسوف تبقى هذه المفاوضات تدور في دائرة مفرغة، لا تحقق سوى مصالح الأمريكان واليهود وعملاء أمريكا من الحكام. ولا يعني تحقيق اختراق في النواحي الإنسانية كالممرات الغذائية، أو الرصيف العائم أو غيره لا يعني شيئا بالنسبة للأهداف التي تريدها أمريكا، فهذه ليست المقصودة من هذه المحادثات، إنما هي مقدمات وذرائع ومداخل للولوج في أمور خطيرة لا يرضاها الله ولا رسوله ولا المؤمنون.
نسأله تعالى أن يجعل مكرهم في نحورهم، وأن يقي المسلمين من مؤامراتهم وشرورهم، وأن يجعل هذا الذي يحدث في غزة هاشم، مقدمات للفرج الرباني العظيم بإسقاط العروش العميلة، وإقامة دولة الإسلام العزيزة ليعز بها المسلمون جميعا.
قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾.
رأيك في الموضوع