أمرٌ غاية في الأهمية باتت رؤيته جليةً مع انطلاق عملية طوفان الأقصى وتالياً الحرب الوحشية من كيان يهود على أهل قطاع غزة المحاصر؛ وهو بيان حقيقة الأطراف ذات الشأن والتأثير في تلك القضية التي أبت إلا أن تكون مصيرية لكل الأطراف الفاعلة، خاصة أنها جاءت استمراراً لحالة صراع الأمة الإسلامية مع حكامها العملاء وأنظمتهم الفاسدة للتخلص منهم.
وفي ظل هذا الكم الهائل من الإجرام المُشاهد بالبث المباشر ومن خلال المقاطع المنتشرة عبر وسائل التواصل الإلكتروني، ظهرت حقيقة الواقع في أجلى صورها بعيداً عن زيف الإعلام الغربي والعبري الذي افتُضِح خداعُه وكذبه للرأي العام الغربي والدولي، ومعه أيضاً ذاك الإعلام المحسوب على الحكام والأنظمة القائمة في البلاد العربية والإسلامية، التي دأبت على مدى عقود في تحريف الواقع داخل فلسطين المحتلة والتدليس في إظهار القضية وحلها، لصرف الرأي العام للأمة الإسلامية عن فهم خذلان تلك الأنظمة وتواطئها مع كيان يهود.
وهنا لا بُدّ أنْ تدرك الأمة حقيقة القضية الفلسطينية وواقعها وتعلم حق اليقين أن سبيلاً واحداً يوصل للحل الوحيد والجذري لها، وما لم يتشكّل عندها وعي صحيح تدرك من خلاله العوائق والموانع التي تقف سداً أمام الوصول لهذا السبيل، فإن الأمة ستبقى تقدم التضحيات تلو التضحيات وترى المجازر تلو المجازر، لكون صراعها مع عدوّ لا يرقب فيها إلّا ولا ذمّة.
فقضية فلسطين باعتبارها أرضاً خضعت للاحتلال من جديد، قد بدأت مع دخول المستعمر الإنجليزي والفرنسي إلى بلاد المسلمين وسقوط الخلافة العثمانية في آذار سنة 1924م، وإقامة أشباه دول على أسسٍ قومية ووطنية ودينية ومناطقية وعشائرية على أنقاضها، بدعم وقرار من عصبة الأمم التي كانت تمثل المنظومة الدولية وقتذاك؛ حيث قسّم المستعمر حسب مصالحه بلاد الشام إلى دولة لليهود في فلسطين سُمّيت فيما بعد (إسرائيل)، ودولة للنصارى سُمّيت لبنان الكبير، ودولة للدروز وأخرى للعلويين، ودولة في حلب وأخرى في الشام وهكذا... وبطبيعة الحال كان لباقي بلاد المسلمين هذا النصيب من التقسيم على قاعدة فرّق تسُد.
وعلى الرغم من أنّ بعض هذه التقسيمات لم تحظ بالقبول من الناس وقتها، إلا إن إرادة المستعمر كان لها القرار الفصل في توزيع الحصص وفرض الشروط؛ ليقوم بعدها برعاية هذه الكيانات الوليدة، حيث وضع على رأس كلّ منها مندوباً سامياً يمثله، حتى يتأكد من قدرتها على الاستمرار في البقاء. ليتم بعدها إعلان الاعتراف الدولي بأشباه الدول هذه وبالوكلاء المحليين الذين تم تسليمهم قيادتها بعدما ثبت إخلاص عمالتهم، وصار فيما بينهم وبين المستعمر مصلحة الوجود المشترك ليس غير.
وبالتمعن في حال كيانات سايكس بيكو بعد مضي قرن على نشأتها، نجد أنها اليوم قد وصلت إلى مستويات لا ترتقي حتى لتسمية شبه دولة! فهي مع كونها منذ نشأتها حتى يومنا هذا ناقصة السيادة لارتباط وجودها بقوة المستعمر، قد فشلت عن توفير الحد الأدنى من العيش الكريم والخدمات والرعاية والأمان لرعاياها، فكان من جرّاء ذلك حصول ثورات وتحركات شعبية في عدد من الدول في ما سُمّي "الربيع العربي". وهذا إنْ دلّ فإنما يدل على كفر الأمة بهذه الأنظمة وحكامها العملاء وسقوطهم عند الشعوب، وإنْ ظهر في الواقع أنّ الأمّة لم تستطع التخلص منهم، فهي بلا شكّ قد حسمت أمرها وتتحيّن الفرصة للقضاء عليهم، وها هي حرب غزة قد أحيت فيها هذه الرغبة وزاد عندها اليقين بضرورة زوالهم.
وبالعودة إلى الأطراف ذات الشأن في قضية الأرض المباركة فلسطين وأي حل ينطبق على واقعها بعد طوفان الأقصى، نجد اليوم أنّ هناك أربعة أطراف مؤثرة فعلياً في الحل، ولكنها متفاوتة في درجة التأثير ومختلفة في الأهداف والغايات.
طرفان منها متفقان بالفعل على أنّ الحل واحد ليس غير، وهو عند كلّ منهما يتلخّص بالقضاء على الآخر، أي بإزالته من الأرض والوجود؛ فهذه الحرب عند كليهما حربٌ عقدية، ويتصرف فيها بحسب هذه الرؤية.
أحدهما هي خير أمة أخرجت للناس وهي الأمة الإسلامية، بنص كتاب الله حيث قال سبحانه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، في مقابل الطرف الآخر؛ وهي تلك الأمّة الملعونة على لسان أنبيائها بنص كتاب الله، وهم اليهود، حيث قال الله فيهم: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. ومن ذرّية أولئك اليهود، تلك الشرذمة التي تجمّعت في الأرض المباركة واجتمعت على احتلالها وقتل وتهجير أهلها بمساعدة الغرب الكافر المستعمر، في غفلةٍ أصابت أمّة الإسلام عندما غاب عنها فهم دينها فهماً صحيحاً.
فعند أمّة الإسلام لا تفاوض ولا جدال في الأمور التي تكون من صلب عقيدتها، فكيف بالتي لها القدسية مثل تطهير الأرض المباركة من رجس يهود وإعادتها إلى سلطان الأمة، ومعها كامل بلاد المسلمين؟! وبالتالي مرفوض حتى ذاك الحل الذي يكون بإقامة دولة فلسطينية كالتي في مخيّلة دعاة القومية العربية والوطنية، لو كانوا صادقين، أي بشبه دولة أخرى تضاف إلى أشباه الدول الموجودة من بقايا مخلفات الاستعمار، ويكون لها علم وطني يضاف إلى أعلامها الساقطة التي رسمت بأنامل وزير الخارجية البريطاني آنذاك مارك سايكس، لتضاف مع الحدود المصطنعة رمزاً آخر لتمزيق شمل الأمة وتقسيمها إلى كنتونات هزيلة ضعيفة لا تكاد تقاس بميزان الدول!
وكذلك عند اليهود الذين تمثلهم اليوم حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، فالمسألة أيضاً عقدية وغير قابلة للنقاش، وهي القضاء على جميع المسلمين في فلسطين، ومن ثمّ التفرغ لما حولها من نهر الفرات إلى نهر النيل. فبحسب الروايات الواردة في كتابهم المحرف أنّ الله وعدهم بهذه الأرض في عهدٍ لإبراهيم عليه السلام، في ما يسمّى سفر التكوين 18، حيث جاء فيه: "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَقَدَ اللهُ مِيثَاقاً مَعْ أَبْرَامَ قَائِلاً: سَأُعْطِي نَسْلَكَ هَذِهِ الأَرْضَ مِنْ وَادِي الْعَرِيشِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ". علماً أنّ كيان يهود لم يضع لنفسه حدوداً واضحة كما تفعل جميع الدول المنضوية في المنظومة الدولية، ولا يوجد له دستور بل فقط قوانين أساسية وقضائية شرّعها الكنيست.
لذلك فإن حكومة نتنياهو تتصرف بعقلية اليهودي الحاقد على كل مسلم في فلسطين ويؤيدها في ذلك جل اليهود، وتريد تحويل قطاع غزة إلى أرضٍ جرداء لا حياة فيها تمهيداً لاستيطان اليهود فيه، وما تصريحات نتنياهو في حقّ أهل غزة بأنهم "العماليق"، وبالتالي هم يستحقون الإبادة الشاملة كما ينص كتابهم المحرّف، إلا أظهر دليل على ذلك...
... يتبع
بقلم: الأستاذ عبد الله العلي
رأيك في الموضوع