لقد كشفت محاولة التمرد التي قامت بها مجموعة فاغنر في روسيا مدى ضعف القيادة الروسية، وعرّت حقيقة فقدانها لسطوة الحكم التي كانت تتسم بها من قبل، وأظهرت هشاشة قبضة بوتين (الحديدية) على السلطة، وأفسحت المجال لنشوء تكتلات سياسية عسكرية داخلية في المستقبل تتصارع فيما بينها، وقد تعصف بحقبة الاستقرار التي تميّزت بها روسيا مُنذ مطلع هذا القرن.
ولعلّ السماح بوجود شركات أمنية خاصة تعمل بنوع من الاستقلالية عن الجيش وبالذات شركة فاغنر، هو الذي أحدث هذا الشرخ في القيادة الروسية، وهو الذي فتح شهية الجنرالات للصراع على السلطة، وتطلعهم للاستحواذ على المناصب الكبرى.
ومنذ تأسيسها في سنة 2014 على يد يفغيني بريغوجين وشركة فاغنر تشق طريقها لتكون بمثابة الجيش الضخم المستقل المُوازي للجيش الروسي الرسمي، وامتلكت فاغنر بهذا الجيش الجديد قيادة قوية صلبة، وإدارات متماسكة مستقلة، وعلاقات معقدة ومتشعبة، وأعمالاً سياسية دولية واسعة، وهو ما أكسبها شعبية كاسحة، وصلاحيات بعيدة عن أعين القيادة الروسية.
أصبح لفاغنر أذرع طويلة خارج روسيا ساهمت في مد النفوذ الروسي بشكل كبير، خاصة في أفريقيا على حساب النفوذ الفرنسي الذي بدأ ينحسر ويضعف في مستعمراته السابقة، واعتبرت فاغنر في هذه المرحلة يد روسيا الضاربة في الخارج.
وتعاظمت قوة فاغنر المالية وحصلت على الأموال الكثيرة، وأصبح لديها أكثر من مائة شركة مالية خاصة تعمل لخدمتها، ولجني الأموال لصالحها، فعلى سبيل المثال تجني لها شركة إفرو بوليس 25% من أرباح عدد من الحقول النفطية في أفريقيا.
ولفاغنر مناجم ذهب وحقوق قطع الأشجار في دولة أفريقيا الوسطى، وتأخذ من حكومة مالي 10.8 ملايين دولار شهرياً لقاء قتالها للإسلاميين الثائرين على الدولة، وفي السودان تعمل فاغنر في تعدين الذهب دعماً لقوات الدعم السريع، وفي ليبيا تدفع لها الإمارات رواتب 1200 جندي من مرتزقتها لدعم المنشق عميل أمريكا خليفة حفتر.
فهي كشركة أمنية عسكرية تعمل في سوريا وفنزويلا ودول أفريقية عدة مثل ليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وموزمبيق ومدغشقر، وتتقاضى أموالاً، وتجني أرباحاً عبر أعمال مرتزقتها في دعم الحكومات الهشة في تلك الدول.
وبسبب نجاحها الملحوظ في أفريقيا استدعاها الرئيس الروسي بوتين للمساعدة في القتال ضد الأوكرانيين، وتم منحها مقابل ذلك 2 مليار دولار في سنة واحدة، وأحرزت تقدماً في جبهة باخموت لم ينجح الجيش الروسي نفسه في تحقيق مثله.
وهذا النجاح الملموس في ساحة القتال أكسب فاغنر مكانة مرموقة في قلوب الروس، وأوجد لها احتراماً لدى العسكريين منهم بشكل خاص، وزادت كاريزما قائدها بريغوجين ما جعله يتفاخر على أقرانه في الجيش، فأصبح يتدخل في الشؤون الخاصة للجنرالات وينتقدهم ويحاسبهم خارج الإطار التقليدي المعروف.
ثمّ صارت له أطماع واضحة في الزعامة، وفي تسلق السلطة، وبدأ يشكل خطراً على زعامة بوتين نفسه، فضلاً عن زعامة وزير الدفاع ورئيس الأركان.
أحسّت القيادة الروسية بتعاظم خطر فاغنر ورئيسها، فاتخذت إجراءً حاسماً في 15/06 حيث طلبت وزارة الدفاع الروسية من جميع المجموعات العسكرية والشركات الأمنية التي تقاتل إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا بالتوقيع على عقود جديدة مع الجيش، تخضع بموجبها تلك الكيانات لشروط جديدة تجعلها تتبع أوامر قادة الجيش مباشرة وذلك ابتداءً من مطلع شهر تموز.
وهذا يعني فقدان فاغنر لاستقلاليتها وانصياعها لوزير الدفاع الروسي ورئيس أركانه، وهما من ألدّ خصوم بريغوجين، فرفضت فاغنر التوقيع، وقامت بتحدي الدولة، وحاولت الانقلاب على القيادة الروسية، فسيطرت على أكبر قاعدة عسكرية روسية في روستوف، واتجهت قواتها نحو موسكو ووصلت على بعد 200 كيلومتر فقط من موسكو، ولكنّ المحاولة توقفت عندما أدرك رئيسها بريغوجين عدم انحياز الجيش له بما يكفي، فأوقف الانقلاب، وقبل بوساطة رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو، ووافق على تسليم أسلحة فاغنر الثقيلة للجيش، واكتفى بالعفو الرئاسي بحقه وحق عناصره الصادر عن بوتين، ومن ثمّ توزعت قواته بين التسريح في البيوت أو الالتحاق بالجيش أو الخروج إلى روسيا البيضاء.
إنّه وإن فشلت محاولة بريغوجين في تحدي زعامة الرئيس بوتين لكنها نجحت في إضعاف مكانة الرئيس في عيون شعبه، وفي إظهار مدى هزال القيادة الروسية، وفي تبدد تلك الهالة المصطنعة التي كانت تحيط بالرئيس. وإنّ فشل المحاولة الانقلابية تلك لا يعني أنّ بوتين سيطر على فاغنر سيطرة مطلقة، فما يزال لفاغنر شبكة واسعة من المجاميع المالية والعسكرية في الخارج ما زالت خاضعة لبريغوجين الذي رفض إخضاعها لبوتين، والذي ما زال يتمسك بقيادتها شخصياً.
لكن من الواضح أنّ مجموعة فاغنر بفشل انقلابها قد ضعفت، وضعفت معها روسيا نفسها بسبب ازدواج القيادة، وبسبب عدم قدرة روسيا على فرض سيطرتها الكاملة عليها.
ونخلص من ذلك كله إلى أنّ روسيا كدولة كبرى قد ضعفت وتضعضع موقفها، وأنّ انخراطها بحرب أوكرانيا طويلة المدى ستزيد في إرهاقها، وإنّ فشلها في استخدام مجموعة فاغنر في الحرب معها وخروجها من المعركة قد فاقم من وضعها. وهذا الضعف في قوة الدولة الروسية سيؤدي إلى إنزالها عن مستوى الدولة الثانية في الموقف الدولي، وربما تحويلها من دولة عالمية إلى دولة إقليمية.
وما أصاب روسيا من وهن حالياً سيصيب غيرها من الدول الكبرى في المستقبل، خاصة وأنّ الجيوش النظامية في غالبية الدول الكبرى قد فقدت شهيتها للقتال، وانعدمت لديها الدافعية لخوض المعارك، وباتت تعتمد على المتعاقدين من المرتزقة في القتال نيابةً عنها. وهذا يبشر بإذن الله سبحانه وتعالى بقرب قيام دولة الإسلام التي يمتلك جيشها عقيدة قتالية روحية، تجعله يمتلك قدرة غير محدودة في الهجوم على الأعداء، وفي دحر جيوشهم المتآكلة، وتحقيق الانتصارات العظيمة عليهم.
رأيك في الموضوع