في 17/7/2023 أعلن القصر الملكي أنه توصل برسالة من رئيس وزراء كيان يهود يُخبره فيها بأن كيانه يعترف بمغربية الصحراء الغربية. ومباشرة بعد نشر الخبر، بدأت أبواق التطبيع تطبل وتزمر وتصور هذا الاعتراف بأنه نصر تاريخي وإنجاز غير مسبوق للدبلوماسية المغربية المظفرة! وفي 20/7/2023 أعلن الملك دعوته لرئيس وزراء كيان يهود لزيارة المغرب.
إن قطار التطبيع الذي انطلق في 10/12/2020، انطلق سريعاً من أول يوم، والناظر إلى عدد الاتفاقيات الموقعة وتنوع ميادينها وعدد الزيارات المتبادلة، يدرك بسهولة أن القوم كانوا يتحرقون شوقاً إلى هتك ستر سرية العلاقة والخروج بها إلى العلن، وأن الأمور كانت معدة سلفاً، بغض النظر عن قصة الخلاف مع الجزائر.
إلا أنه ولإعطاء شيء من المصداقية لهذا الانحدار الفظيع، ولتغطية عوراتهم قاموا بهذه الأمور:
- ضخموا قضية الخلاف مع الجزائر، وصوروا الأمر وكأن الجزائر تستعد لغزو الصحراء وانتزاعها من المغرب. فزعموا أن اندفاع المغرب نحو يهود هو للحصول على الأسلحة والتقنية العسكرية التي تجعل للمغرب الغلبة على جاره. وقد ساهم حكام الجزائر كذلك في تأكيد هذه الصورة ما يؤكد أن المخطط يتجاوز المغرب والجزائر وأن هناك طرفاً فوقهما هو من ينسق الأمر.
- زعموا أنهم نسقوا الأمر مع سلطة عباس بل ومع حماس وأخذوا الضوء الأخضر منهما، وأن الطرفين لا يريان بأساً في تطبيع المغرب علاقاته مع كيان يهود، وما دام أهل فلسطين راضين عن هذا التطبيع فما عليهم فيه إذاً حرج.
- ادعوا أن هذا التطبيع لا يعني بالضرورة التخلي عن أهل فلسطين، وأنهم مستمرون بدعمهم في المحافل الدولية وعن طريق بيت مال القدس ومن خلال رئاسة الملك للجنة القدس.
- ادعوا أن هذا التطبيع سيمكنهم من الاستفادة من التقدم العلمي والتقني الذي يتوفر عليه كيان يهود ومن قوة اللوبي اليهودي المنتشر في العالم.
إن هذه المبررات لا تنطلي إلا على السُّذَّج أو من ختم الله على قلوبهم، أما من أوتي أدنى نصيب من العقل والحكمة، فيعلم أن الخيانة تبقى خيانة ولو ابتغي لها ألف مبرر، وأن الحرام يبقى حراماً، ولو غلف بألف عذر.
أما بيان ذلك فكالتالي:
- إن كيان يهود كيان ظالم مجرم، قام أساساً على سرقة أرض الإسراء والمعراج، أرض المقدسات، أرض الأنبياء والصحابة الكرام، أرض الشهداء والتضحيات على مر التاريخ، فأي مصداقية وأية شرعية يضيفها اعتراف سارق بملكية مالك أصلي؟! وما هو ثمن هذا الاعتراف؟ أن يعترف المسروق بحق السارق في الاستمتاع بما سرق، وعدم جواز منازعته حقه في ذلك، إنها والله لقسمة ضيزى! لو أن يهود كان لهم سلطان على الصحراء لقلنا اعترف بهم المغرب فانسحبوا منها، ولكن السلطان كله للمغرب لا يكاد ينازعه فيه أحد، فيكون المغرب قد تنازل عن أرض مقدسة مقابل اعتراف سارق بملكيته لأرض يملكها أصلا ويسيطر عليها، أليس للقوم عقول يفقهون بها؟ أم على قلوب أقفالها؟!
- إن الخلاف مع الجزائر هو خلاف مفتعل وليس حقيقياً، وإن تسخينه أو تبريده متعلق أساساً بمخططات الدول العظمى وليس للمغرب أو الجزائر أي يد فيه. لذا فإن تأجيج هذا الصراع أو مجرد الانخراط فيه، لا يقدم عليه إلا جاهل أو ساذج، فأهل المغرب والجزائر هم إخوة، لا يملون من تكرار شعار: "خاوة خاوة"، يجمع بينهم الدين واللسان والتاريخ والجغرافيا، وبقليل من الحكمة يمكن ليس فقط وأد هذا الصراع، بل وتوحيد البلدين وجعلهما نواة لدولة عظمى في شمال أفريقيا تملك قابلية التمدد لتضم باقي البلاد الإسلامية، فكيف يعقل أن يتحول الأمر من احتواء الخلاف إلى مشجب يبرر الارتماء في أحضان العدو الغاصب؟!
- إن الزعم أن المغرب قد نال الضوء الأخضر من عباس أو من حماس للتطبيع، لا يعتبر عذراً مقبولاً، فالتطبيع مع يهود حرام لأنهم غاصبون مجرمون، يدنسون المقدسات، ويقتلون أهل فلسطين ظلماً وعدواناً، فكيف يحلو لكم صلح مع هؤلاء المجرمين؟! وحرمة الصلح معهم من أبجديات الفقه، ويكاد يكون من المعلوم من الدين بالضرورة: لا يجوز شرعاً عقد أي صلح مع من يقتل المسلمين ويحتل ديارهم، ولا يمكن أن يقلل من حرمته ضوء أخضر كائنا من كان مصدره.
- إن الزعم أنه يمكن تحقيق منافع اقتصادية من وراء التطبيع مع يهود ينمُّ عن جهل كبير بطبيعة هؤلاء القوم، فقد جُبلوا على الشح والأنانية، وها هي مصر أمام أعيننا، وقد مضى على تطبيعها مع يهود 45 سنة، والأردن قد مضى على تطبيعها 29 سنة، والسلطة الفلسطينية قد مضى على اعترافها بيهود 30 سنة، فماذا جنى هؤلاء من وراء علاقاتهم بيهود، هل تحسنت أحوالهم؟ هل جنوا خيراً أم أن أمورهم تتدحرج من سيئ إلى أسوأ؟! فهل يطمع المغرب أن يكون أحسن حالاً ممن سبقه، وأنه يستطيع فعل ما عجز عنه الآخرون بذكائه ودهائه؟!
- إن المنافع الاقتصادية، وإن تحققت، وهي لن تتحقق، فبئست المنافع معمدة بالدم، بئست المنافع مغمسة بصرخات الثكالى والأيامى، بئست المنافع على حساب أنات الأسرى واللاجئين والمطاردين، إن هذه المنافع سحت محرم، تأخذ برجل صاحبها وتسحبه سحباً إلى النار، قال ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ، وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ». إن دماء الشهداء ودموع المظلومين تلعن كل من يضع يده في يد هؤلاء المجرمين بل ومن يبشّ في وجوههم.
- إن حق فلسطين وأهلها علينا أعظم من بضعة دراهم نلقيها إليهم من فتات أموالنا، وأعظم من خطاب نلقيه في الأمم المتحدة نشكو إليها ضعف حالنا وهواننا على يهود، ونستجدي تدخلها لتكف يدهم عنا. إن حق فلسطين علينا أن نجيش الجيوش لتحريرها من يهود، فكيف تلقون الله وقد استبدلتم بتحريرها التطبيع مع غاصبيها وفتح البلاد لهم؟ لقد كان المغرب على مر التاريخ أرض الأمجاد ومعبر الفتوحات نحو أوروبا شمالاً ونحو أدغال أفريقيا جنوباً، ولهذا يجب أن يعمل العاملون، فلا تنتكسوا وتستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن المغرب وسائر بلاد المسلمين ستبقى عصية على التطبيع، لأن المسلمين رضعوا حب فلسطين مع حليب أمهاتهم، كلما قرؤوا قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، تشوّفت أعينهم قِبَل المسجد الأقصى، وكلما قرؤوا قوله ﷺ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، تحسروا على حال الأمة تحت حكام دويلات الضرار، ومنّوا النفس بيوم يصلون فيه إلى الأقصى وقد طُهِّر من حراب الاحتلال، وكلما رأوا هذه المسارعة من حكامهم نحو أعداء الله، تذكروا قوله تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
إن هذه الاتفاقيات الخيانية لن تزعزع ثقة المسلمين بموعود الله ونصره، ولن تزيدهم إلا يقيناً بأن حكامهم ليسوا منهم، ولا يحملون همهم، لا يفرحون لفرحهم ولا يحزنون لحزنهم، قد ارتضوا لأنفسهم طريقاً غير الطريق الذي ارتضاه الله ورسوله لعباده، طريق موالاة الكافرين والتودُّد إليهم، وإن كان على حساب دينهم ودماء أهلهم. إن بلاد عقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد، إن بلاد يوسف بن تاشفين ويعقوب المنصور وغيرهم من قادة الإسلام العظام، لتأنف أن يدنسها مجرم ظالم تقطر يداه من دماء المسلمين، فنقول لهم: لا مرحباً بكم، لا بارك الله فيكم ولا فيمن دعاكم أو آواكم، وإن أوان طردكم مدحورين قد أزف، فلا تخدعنكم أحضان هؤلاء، فأنتم وإياهم إلى زوال.
لقد أصبحت الأمور واضحة سافرة لكل ذي عينين، وكل من كان يتأمل خيراً في هؤلاء الرويبضات رأى بأم عينه ما آلت إليه الأمور، فهلم أيها المسلمون لما يخلصكم مما أنتم فيه، هلم إلى صلاح وعز دنياكم وأخراكم، ضعوا أيديكم في أيدينا، وأخرجوا منكم أنصاراً كأنصار الأمس يبايعون على نصرة الدين فينالوا بذلك ما ناله أسلافهم، عسى أن يجعل الله الفتح على أيديكم.ش
بقلم: الأستاذ محمد عبد الله
رأيك في الموضوع