بعد خمس عشرة جولة من الإخفاق في الحزب الجمهوري في أمريكا، فاز مكارثي برئاسة مجلس النواب، خلفاً لبيلوسي الديمقراطية، وقد قيل إن جولات الإعادة لانتخاب الرئيس التي وصلت لخمس عشرة جولة لم تحصل منذ مائة وستين عاماً، وربما هذه القراءة تذكرنا بحكومة الائتلاف في كيان يهود التي ما كانت لتتشكل لولا التحالف الهش الذي جمع الليكود بزعامة نتنياهو، وأربعة أحزاب دينية اضطر للتعامل معها ليتم تشكيل حكومته، والذي أداه بالتالي لأن يقدم لها تنازلات كبيرة.
المهم أن الحالتين في أمريكا وكيان يهود يجمعهما حجم التنازلات التي قدمها مكارثي للمتشددين في الحزب الجمهوري من أجل انتخابه، والتنازلات التي قدمها نتنياهو ليتمكن من تشكيل الحكومة، ففي الحالة الأمريكية اضطر مكارثي لكي يحسم الجدل بشأن رئاسة مجلس النواب أن يقدم تنازلات لشراء أصوات، مع أن المراقبين للمشهد يتوقعون شل حركة الجمهوريين في المجلس بالرغم من امتلاكهم الأغلبية، وذلك بسبب الخلافات التي تعصف بالحزب الجمهوري، ومن ضمن التنازلات التي قدمها مكارثي إعطاء الشق اليميني المتشدد من حزبه مقاعد في لجنة القواعد النافذة في مجلس النواب مع أن هذه اللجنة تسن قواعد عمل المجلس وتقرر أي مشروع سيحظى بالتصويت ومدة النقاش حوله وعدد الأصوات اللازمة لإقراره والتعديلات التي يمكن أن تطرح عبره، وهذا من شأنه أن يعطي اليمين المتشدد في الحزب الجمهوري التحكم في كل الملفات دون استثناء، وأيضاً ستعطيهم هذه الميزات إمكانية عرقلة أي تمويل حكومي أو الصرف على أي من مرافق الدولة، وحتى البرامج الدفاعية والتكلفة المطلوبة فيها ستكون من اختصاصهم، وهذا فضلاً عن التحكم في حزم التمويل اللازمة وضخ السيولة النقدية إذا لم تفرض مقابلها ضرائب.
هذه فقط بعض الصلاحيات التي قدمها مكارثي للمتشددين في حزبه، وهي تشبه إلى حد بعيد ما فعله نتنياهو لتجميع حكومته اللقيطة، ما ينذر بشرخ سيعصف بكلتا الدولتين وانقسامات لها ما بعدها، فالانقسامات في كلتيهما ظهرت مبكراً، وإن كانت قد طفت على السطح منذ سنوات قليلة؛ ففي أمريكا ظهر الانقسام مع ترامب قبل ست سنوات، أي في بداية عهده وكان رأس جبل الجليد ظهر مع اقتحام أنصاره لمبنى الكونغرس، وظهور شعارات تنبئ بأن الدولة الأمريكية مهددة من الداخل، وما زالت الانقسامات تكبر مثل كرة الثلج بل إنها بدأت تظهر على شكل كسر عظم ليس في المجتمع فقط بالعرق واللون، بل أيضا على مستوى الشركات الكبرى، ونقصد شركات النفط والسلاح التي تؤيد الجمهوريين من جهة، وشركات التكنولوجيا التي تؤيد الديمقراطيين من جهة أخرى.
إن بداية الانقسام في أي بلد لا يكون إلا إذا كان الحكم للأقلية، وبخاصة في الأنظمة التي يدعي حكامها أنهم جاؤوا ويحكمون برأي الأغلبية، مع أن أبسط مراقبة ومتابعة تقول بأن من يملك الأكثرية ليس بحاجة لاسترضاء أحد وتقديم التنازلات، كما حصل في أمريكا وكيان يهود، ومن يملك الأغلبية فإنه سينفذ قراراته على الجميع رضي من رضي وغضب من غضب. ولو كان النظام الديمقراطي في كلتا الدولتين صادقاً مع أفكاره ومعتقداته لقال إن استجداء الأصوات مقابل تنازلات يعارض الديمقراطية ويضرب أسسها.
إن خدعة أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية لم تكن في يوم من الأيام توافق الواقع أو تقنع العقول السليمة وقد ظهر عوارها وبان واضحا كالشمس في رابعة النهار، فالغرب يعتبر الديمقراطية الموهومة التي سوقها في العالم بضاعة قل مثيلها وسلعة نادرة ثمينة، ولذلك فإنه يفرض تبنيها، مع أنه في الواقع العملي إذا وجد أن الأغلبية أوصلت إسلاميين للحكم فإنه سرعان ما ينقلب عليها، وما حصل في الجزائر ومصر خير دليل.
إن التنازلات التي اضطر مكارثي لتقديمها حتى يحظى برئاسة مجلس النواب الأمريكي، والتنازلات التي قدمها نتنياهو للأحزاب اليمينية المتطرفة من أجل أن يصبح رئيسا للحكومة، يفكك فكرة وهم الديمقراطية عند الناس، وبأن الغرب معني برأي الأغلبية بالضرورة، وأنه قد آن للعالم أن يرفع يديه مستسلما لما تحمل الأمة الإسلامية من أفكار وعقائد، وأن هذه الأفكار التي هي من عند خالق الكون والإنسان والحياة هي فقط الأفكار التي تقنع العقل وتوافق فطرة الإنسان التي فطره الله عليها وليست عقد روسو ولا ديمقراطية أرسطو وأفلاطون ولا دولة آدم سميث، فهذه الأفكار الغبية من الديمقراطية وغيرها يجري لفظها عند الغرب على الأقل في الممارسة العملية وإن كان كبر عليه أن يعترف ويصرح بذلك، وإن رأي الأغلبية الذي يدعيه نظاما للحكم قد أصبح جزءاً من الماضي، والمعاينة أدق من الخبر، فلم يكن لمكارثي ولا لنتنياهو حسم الجدل لولا التنازلات التي قدماها، وكما أسلفنا فإن هذه التنازلات لها ما بعدها.
وأخيراً، إن الغرب يبدو أنه مقبل جبراً عنه على استرضاء ما يسمى باليمينية الدينية المتطرفة ليس فقط في أمريكا وكيان يهود، وإنما ستنسحب هذه الحالة على كل الدول الغربية وسيكون عدم استرضاء هذه الأقليات عائقا قد يحول دون استقرار الحكم، وأن وصول الحركات اليمينية تحت اسم الشعبوية التي تحمل خطاباً أصولياً دينياً متشدداً ينذر بالتعرض للمسلمين في هاتيك الدول، فالغرب لا يراعي عهدا ولا ذمة كما أخبر الله سبحانه في كتابه العزيز: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلَا ذِمَّةً﴾، وربما في هذا الأمر خير في الآجل، فإن الغرب ما انفك يروج أن الإسلام انتشر بالسيف وبأن الدولة الإسلامية كانت تفتن الناس عن دينهم، ولم تجد في تاريخ الأمة والدولة الإسلامية إلا ما ادعته كذبا وافتراء من مذبحة للأرمن في الحرب العالمية الأولى، فالذميون في ظل الدولة الإسلامية أحسنَ الله تسميتهم وأحسنت الدولة معاملتهم، ودليل هذا أن الذميين بقوا في البلاد الإسلامية حتى بعد زوال سلطان المسلمين، وما ذلك إلا مما رأوا من عدل الإسلام والمسلمين. وإن حكم الإسلام سيكون قريباً إن شاء الله وستنعم الدنيا بعدله وقسطه.
بقلم: الأستاذ أبو المعتز بالله الأشقر
رأيك في الموضوع