بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال:
جاء في موقع فرانس24 بتاريخ 01/10/2022: (أعلن متحدث باسم الجيش الأوكراني دخول قواته إلى بلدة ليمان شرق البلاد (بمنطقة دونيتسك) بعد محاصرة القوات الروسية...)، وكان الرئيس الروسي بوتين قد أمر يوم الأربعاء (بأول تعبئة في بلاده منذ الحرب العالمية الثانية بعد انتكاسة كبيرة في ساحة المعركة بأوكرانيا... يورونيوز 21/09/2022) وقد جاء ذلك بعد هجوم مضاد استعادت أوكرانيا خلاله مناطق واسعة كانت روسيا قد احتلتها: (قال نائب وزير الدفاع الأوكراني اليوم الأحد في تصريحات لفضائية الحرة أن أوكرانيا استعادت 10 آلاف كم مربع كانت روسيا احتلتها في شرق أوكرانيا... وأوضح أن كييف تلقت كثيرا من الدعم من الدول الغربية ونجحنا في هجومنا المضاد في الشرق... البلد، الأحد 18/09/2022).
والسؤال الآن: هل روسيا ضعيفة حقاً من الناحية العسكرية؟ أم أن إمدادات السلاح الغربي قد تضاعفت بشكل كبير؟ وهل ستقلب التعبئة الجزئية لجنود الاحتياط في روسيا الأمور؟ ثم ما دلالة ضم روسيا للمناطق الأوكرانية الأربع مع أن أوكرانيا أعادت في اليوم التالي ليمان وهي جزء منها؟ وهل يمكن تراجع روسيا عن الضم؟
الجواب:
حتى تتم بلورة تلك الحقائق المستجدة وإدراك أبعادها وتداعياتها لا بد في البداية من التأكيد على أن الحروب الكبيرة هي أسرع وأضمن طرق التغيير في موازين القوى الفعلية، هكذا هي عبر التاريخ، وبمتابعة تطورات الحرب في أوكرانيا يتبين:
1- لم تشعل روسيا الحرب في أوكرانيا من باب الدفاع عن الناطقين بالروسية في منطقة الدونباس فحسب وإن كانت تذرعت بها، بل أشعلتها لتعزيز مكانة روسيا الدولية، وكانت على عتبة إشعالها للحرب تطلب ضمانات أمنية من أوروبا وأمريكا وحلف الناتو، وكانت تلك الضمانات تشمل عدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وهذه الأهداف الروسية والناجمة عما يعتبره الروس ظلماً غربياً بحق روسيا وإجحافاً لمكانتها الدولية بوصفها قوة نووية من الطراز الأول كانت واضحةً في كل التصريحات الصادرة عن موسكو قبيل الحرب، وما يؤكد ذلك أيضاً إصرار موسكو على تلك الضمانات وأن تقدمها أمريكا والغرب بصورة مكتوبة. لذلك، وهذا مهم للغاية فإن أمريكا وتبعتها في ذلك أوروبا قد تعاملت مع الحرب الروسية على أنها تمرد على النظام الدولي وليس مجرد مطالبات أرضية من أوكرانيا أو دفاعاً عن الروس شرقي أوكرانيا، وكان هذا التعاطي الأمريكي والغربي مختلفاً تماماً عن مثيله سنة 2014 عندما ضمت روسيا إليها شبه جزيرة القرم، أي أنه كان على مستوى التعاطي مع دولة كبرى تتمرد على النظام الدولي الغربي الذي تتفرد أمريكا وحدها بقيادته.
2- لذلك كان الرد الأمريكي والأوروبي شديداً ضد روسيا، ولم تتوقعه روسيا التي تشتهر بالغباء السياسي... ففرضت أمريكا وأوروبا عليها عقوبات هي الأقسى عبر التاريخ، وجمدت أموالها بالخارج، وقطعت تلك الدول أواصرها مع روسيا رغم شدة حاجة أوروبا للنفط والغاز من روسيا، وأخذت أوروبا، خاصة ألمانيا تتسلح من جديد وأخذت أمريكا ومعها أوروبا تقدم الدعم العسكري بكثافة لأوكرانيا. وعلى وقع الحرب الروسية في أوكرانيا أظهرت أمريكا قيادتها للغرب بشكل واضح لا لبس فيه بعد أن صارت محل شك إبان حقبة الرئيس السابق ترامب، وسدت الكثير من الثغرات في علاقاتها مع حلفائها، ولأن حقيقة القوة الروسية التي تدفع بموسكو إلى الأمام لم تكن واضحة في بداية الحرب كما هي واضحة اليوم بعد أكثر من نصف عام على دخولها أوكرانيا فإن أمريكا قد أخذت تقدم المساعدات العسكرية لأوكرانيا بالتدريج، وكانت تراقب رد فعل موسكو حيال ذلك، ومع مرور الوقت أخذت الخطوط الروسية الحمراء تتساقط واحداً تلو الآخر ومن ثم أخذت أمريكا ويتبعها حلفاؤها تسقط خطوط روسيا الحمراء، ثم تتجاوزها لما بعدها دون أن تتمكن روسيا من ردعها، وكان إسقاط هذه الخطوط يتمثل بتقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا وزيادتها كماً ونوعاً، من الدفاع للهجوم... وهكذا فبعد أن كانت أمريكا لا تشجع أوكرانيا على مهاجمة روسيا في جزيرة القرم صارت تشجعها...
3- بغبائها الاستراتيجي اندفعت روسيا بتهور تحتل الأراضي الأوكرانية، ولشعورها بالاستعلاء على أوكرانيا فقد اندفعت في العمق باتجاه العاصمة كييف، وفشلت في احتلالها وتراجعت إلى الدونباس، لكن هذا التراجع كشف عن ضعف كبير في الجيش الروسي، فلا أظهرت روسيا طائراتها وسيطرت على الأجواء في أوكرانيا ولا استطاعت تقديم الدعم اللوجستي لقواتها المتقدمة، وقد تفاجأت بحجم المقاومة الأوكرانية على عكس ما توقعته استخباراتها، وهكذا انكشف ضعف عسكري خطير في الجيش الروسي أوجد آمالاً كبيرة في واشنطن بهزيمته في أوكرانيا، وتبين أن أحاديث الرئيس الروسي بوتين عن القوة الروسية لم تكن متوافقة مع الأداء الميداني الضعيف لجيشه، وعلى وقع هذا الوهن المنكشف على أرض الواقع عادت السفارات الأجنبية إلى كييف بعد إغلاقها وأصبح المسؤولون الغربيون يتوافدون على العاصمة الأوكرانية تترى...
4- ثم صارت أمريكا تعلن أهداف المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وكان لإعلان هذه الأهداف الأمريكية وقع الصاعقة في موسكو، وقامت أمريكا بجمع المعلومات الاستخباراتية الميدانية عبر الأقمار الصناعية لصالح أوكرانيا وقدمت لها المشورة العسكرية حتى إن رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي قال بأنه يتصل بنظيره الأوكراني سبع مرات في الأسبوع (قناة الجزيرة، أيلول 2022)، وبكل المقاييس فإن معنى ذلك أن أمريكا تعتبر الحرب في أوكرانيا حربها ولكن دون المشاركة المباشرة فيها، وفعلاً تعلن أمريكا بشكل أسبوعي عن تقديم مساعدات عسكرية إضافية لأوكرانيا بمليارات الدولارات. بمعنى أن أمريكا عازمة على هزيمة روسيا في أوكرانيا وشطبها من قائمة الدول الكبرى، وهذا ما باتت تدركه روسيا ولكن بعد فوات الأوان!
5- ومما ينكشف أيضاً من مؤشرات الوهن الاستراتيجي لروسيا أنها استمرت بتوريد النفط والغاز لأوروبا خلال ستة شهور من الحرب مع أن أوروبا تعلن جهاراً نهاراً أنها في طريقها الأكيد للتخلي عن واردات النفط الروسية وكذلك الغاز، أي أنها لم تبادر بقطع النفط والغاز عن دول تعلن عداءها لها صباحاً ومساءً، وهذا يشير إلى شدة حاجة موسكو للمال على الرغم من تبجحها بأن اقتصادها لم يتأثر بالعقوبات الغربية وأن الروبل صامد أمام العقوبات! وإذا كانت روسيا قد قطعت خط إمداد الغاز "نورد ستريم 1" بالكامل مطلع أيلول 2022 قبل التفجيرات إلا أن ذلك قد جاء متأخراً للغاية، وظلت تعلن بأنها مورد موثوق للطاقة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الخطوط الأخرى لتوريد الغاز إلى أوروبا مثل خط "يامال" العابر لبولندا وخطوط "بروجرس" و"سيوز" العابرة لأوكرانيا وخط "ترك ستريم" العابر لتركيا لا تزال تعمل وتغذي أوروبا بالغاز، اللهم باستثناء تلك الفروع التي قطعتها بولندا وأوكرانيا ولم تقطعها روسيا، فحاجة روسيا للمال قد أفقدتها كرامتها على الساحة الدولية، وهذا يتنافى مع جهودها قبيل الحرب لتعزيز مكانتها الدولية...!
6- ثم إن روسيا قد تفاجأت بالمواقف الصينية الأخيرة والتي ظهرت خلال قمة سمرقند لقادة منظمة شنغهاي التي انعقدت منتصف أيلول/سبتمبر 2022، أي بعيد هزائم روسيا في خاركوف، تلك المواقف التي كشف عنها الرئيس الروسي نفسه حين أعرب عن تفهمه لـ"مخاوف الصين وقلقها" من الحرب في أوكرانيا، و(قال بوتين - في أول لقاء مع نظيره الصيني منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا - إن روسيا تقدر موقف الصين "المتوازن" بشأن الأزمة الأوكرانية. الجزيرة نت، 15/9/2022)، وهكذا تبين لروسيا بأن الصين التي وقعت معها اتفاقية تعاون "لأبعد الحدود" قبيل الحرب في أوكرانيا قد صار موقفها "متوازنا"، أي لا هي مع روسيا ولا هي مع أوكرانيا والغرب، وفعلاً امتنعت الصين عن مجرد ذكر اسم "أوكرانيا" في بياناتها المشتركة مع روسيا في قمة شنغهاي وفي تصريحات رئيسها، بل كانت تلمح لذلك تلميحاً. ولا يشك عاقل بأن أمريكا تبين للصين خطورة قيامها بأي مساندة لروسيا في حربها في أوكرانيا، وهو أمر لا شك بأن الصين تستجيب له خشيةً على تجارتها الدولية... ولذلك فهي لم تؤيد روسيا ضد قرار مجلس الأمن الذي استنكر ضم المناطق الأربع في أوكرانيا، فقد نشرت فرانس 24 في 1/10/2022 ما يلي (استخدمت روسيا الجمعة حق النقض "الفيتو" لمنع تبني مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدين إقدامها على ضم أربع مناطق أوكرانية... ومشروع القرار الذي أعدته الولايات المتحدة وألبانيا أيدته عشر دول أعضاء في مقابل امتناع أربع دول عن التصويت هي الصين والهند والبرازيل والغابون...).
7- وفي ضوء كل ما ذكر فإن الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي لم ينجح في استسلام أوكرانيا لشروط روسيا يكشف عن ضعف عسكري خطير لروسيا، ويكشف عن دعم عسكري نوعي وكبير من أمريكا والغرب لأوكرانيا، بعضه معلن وبعضه الآخر خفي، ولأن روسيا قد رأت هذه الحقائق الجديدة والتي لم تتوقعها قبل الحرب فقد ذكّر لافروف في 12/9/2022 بأن روسيا لا ترفض المفاوضات مع أوكرانيا (قناة الجزيرة، 12/9/2022) ولكنه يدرك بأن شروط الاستسلام الروسية التي وضعت على طاولة أوكرانيا في أيام الحرب الأولى قد تبخرت، وليس هناك أمل بإعادة تلك الشروط الروسية إلا باستخدام روسيا للأسلحة النووية، وهي ربما آخر أوراق روسيا على الإطلاق، ولكنها تعلم كذلك بأن استخدام الأسلحة النووية سيجر أمريكا للحرب بشكل أو بآخر، وهي تعجز عن تحقيق النصر في حربها مع الجيش الأوكراني الذي يتلقى مساعدات أمريكية فكيف يمكنها تحقيقه إذا شارك الجيش الأمريكي في الحرب، لذلك فإن روسيا بعد الهجوم الأوكراني في وضع "حيص بيص".
8- أدركت روسيا كل تلك المخاطر، وأظهر رئيسها رفضه للهزيمة فـ(أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة الجزئية للجيش، مشيرا إلى تعرض بلاده لتهديدات نووية. الجزيرة نت، 21/9/2022)، وكذلك (أعلن ممثلو مقاطعات لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا المدعومون من روسيا، عزمهم تنظيم استفتاءات للانضمام إلى روسيا في الفترة من 23 إلى 27 سبتمبر/أيلول الجاري. وكالة الأناضول التركية، 21/9/2022)... وفعلاً تم الاستفتاء وكان الضم... نشرت الجزيرة نت في 30/9/2022 ما يلي: (أعلن الرئيس الروسي بوتين أن مناطق لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية باتت روسية كما ندد في خطاب مطول بما سماه سيطرة الغرب على النظام العالمي بينما أكد الرئيس الأوكراني زيلينسكي اتخاذ بلاده "خطوة حاسمة" ردا على الإجراء الروسي). ومع ذلك فقد استمر الجيش الأوكراني في الأعمال العسكرية داخل هذه المناطق الأربع... جاء في موقع فرانس24 بتاريخ 01/10/2022: (أعلن متحدث باسم الجيش الأوكراني دخول قواته إلى بلدة ليمان شرق البلاد بعد محاصرة القوات الروسية حول معقل شديد الأهمية لموسكو فيما أكدت روسيا أن آلافا انسحبوا من البلدة وسط استمرار القتال ويأتي ذلك فيما تواصل موسكو التصعيد سياسيا بعد أن صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة على ضم أربع مناطق أوكرانية... وكتبت وزارة الدفاع الأوكرانية على تويتر (قوات الهجوم الجوي الأوكرانية تدخل ليمان بمنطقة دونيتسك) وقبل ذلك بقليل قال الجيش الأوكراني إنه يحاصر آلافاً من الجنود الروس في هذه البلدة الواقعة في منطقة دونيتسك التي ضمتها روسيا الجمعة).
9- وبتدقيق النظر في هذه المواقف الروسية بعد كل ما حدث يتبين ما يلي:
أ- كما هي عقلية الروس عبر التاريخ فإن روسيا تنظر إلى المكاسب الأرضية وتريد الحفاظ عليها بأي ثمن، لذلك تقوم بإجراء استفتاءات في المناطق التي سيطرت عليها كلياً أو جزئياً لضمها إلى روسيا، وجعل ذلك أمراً واقعاً. بمعنى أن روسيا تريد أن تقول بأن هذه المناطق الجديدة (لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون) قد أصبحت أراضي روسية وأن الهجوم عليها هجوم على روسيا، وأن هذا قد يقتضي الدفاع عنها باستخدام أسلحة نووية بحسب مقتضيات ما تسميه روسيا "عقيدتها العسكرية-النووية"، أي أنها تريد إرهاب أمريكا والدول الأوروبية بخطورة دعم الجيش الأوكراني بمهاجمة أراضٍ روسية وترهيب الجيش الأوكراني نفسه. إن هذا كله يدل على ضعف الجيش الروسي وأنه يلجأ إلى التلويح بالأسلحة النووية بعد عجزه عن النصر في أوكرانيا رغم ما يشبه الاتفاق الدولي على تحريم استخدامها في الحروب...
ب- إن إعلان التعبئة العامة جزئياً لتجنيد 300 ألف جندي من الاحتياط، وقد يتم تجنيد رقم أكبر بكثير، كل ذلك يدل بشكل غير مباشر على ضعف الجيش الروسي وأنه عاجز عن تحقيق أهداف روسيا في أوكرانيا وأن ثقل الخسائر البشرية التي لحقت به جعلته بحاجة للاحتياط، ومع ذلك لا تزال روسيا تتبجح بأنها لا تخوض حرباً وإنما عملية عسكرية خاصة.
10- إن الراجح هو أن الحرب في أوكرانيا قد دخلت طوراً تصعيدياً تكتنفه خطورة كبيرة، فإذا ما أرادت روسيا أن ترد الاعتبار لنفسها فإنها ستقوم بحرق الأخضر واليابس في أوكرانيا في قادم الأيام، هذا إذا كانت تمتلك القدرة والإرادة لفعل ذلك، والكثير من المؤشرات تدل على تناقص قدرتها ووهن إرادتها، فروسيا قد أدركت بعد فوات الأوان أنها بشكل أو بآخر في مواجهة أمريكا والدول الأوروبية على الساحة الأوكرانية، وإذا كانت الدول الأوروبية تبقي فتحة صغيرة من بابها مواربةً لروسيا، بعكس أمريكا التي أدارت لروسيا ظهر المجن، فإن خطط أوروبا للتخلي عن النفط الروسي نهاية هذا العام وبعده الغاز، كل ذلك يجعل من دول أوروبا أكثر شراسة في التصدي لروسيا، وهذا ظاهر من تصاعد نبرة الألمان ضد روسيا وتصاعد تسلح ألمانيا. فروسيا أرادت من استفتاءات المناطق الأوكرانية للانضمام إلى روسيا أن تجعل المكاسب الروسية في هذه المناطق أمراً واقعاً يسلم بها الجميع، وأبقت على غموض استخدام الأسلحة النووية للدفاع عن هذه المناطق، ولكن الغرب رفض هذه الاستفتاءات وأعلن بأنه مستمر في دعم أوكرانيا عسكرياً، بل وقدم منظومات دفاع جوي أكثر تطوراً لأوكرانيا، وهنا زاد المأزق الروسي تعقيداً.
11- أما موضوع إعلان التعبئة، فوفق خبراء عسكريين فإن مسألة التعبئة وجلب جنود الاحتياط غير المدربين لن يفيد الجيش الروسي كثيراً، فمسألة ضعف الجيش الروسي أعمق بكثير من أن يجبرها زيادة في العديد، فهي مشكلة قيادة ومشكلة معدات غير متوفرة اليوم في روسيا، وعلى الرغم من أن روسيا تشغل مصانعها العسكرية ومصانع الإنتاج المزدوج لصالح الجيش بأقصى طاقة وكأنها في حرب عالمية إلا أن ذلك لن يكون حاسماً لأن أمريكا ودول أوروبا تقوم بتزويد أوكرانيا بما يلزم جيشها أيضاً، وإذا ما استمرت الخسائر الثقيلة للجيش الروسي في أوكرانيا فإن ضغطاً كبيراً سيتعرض له الكرملين من داخل روسيا لوقف الحرب. وسيزيد من هذا الضغط ما حصل من تفجيرات لخطوط نورد ستريم الروسية في بحر البلطيق وما ينتج عنها من انقطاع آمال أوروبا بالغاز الطبيعي الروسي الرخيص، وكل هذا يجعل روسيا في مواجهة عداء أوروبي أكبر يتمثل في زيادة دعم الجيش الأوكراني وضعف الأصوات الأوروبية المنادية بالتصالح مع روسيا للحصول على الغاز الرخيص. هذا بالإضافة إلى تراجع المواقف الصينية ومن ثم يزداد شعور روسيا بأنها وحدها في ميدان المواجهة مع أمريكا والغرب، بمعنى أن الصين تخلت عنها بشكل كبير، وهذا كله يثير انتقادات داخلية واسعة لقادة الكرملين بأن حساباتهم كانت خاطئة، أي تحميلهم الورطة الروسية الجديدة.
12- وأما التهديدات النووية الروسية، فهي أولاً تفتقد الإرادة الفعلية إذ لم تلاحظ الاستخبارات الغربية أي تحركات جديدة لقوات روسيا النووية ما يزيد اعتقاد الغرب بأن تهديدات بوتين هذه أقرب إلى التخويف منها إلى الاستخدام الفعلي للأسلحة
النووية. ولأن أمريكا والدول الأوروبية لم تظهر رعبها من أسلحة روسيا النووية رغم أنها قالت بأنها تأخذ هذه التهديدات على محمل الجد، لا سيما وأن المقصود هو غالباً الساحة الأوكرانية وليس الغرب نفسه، ورغم أن أمريكا أعلنت بأنها سترد على أي استخدام روسي للأسلحة النووية في أوكرانيا، حتى لو ردت بأسلحة تقليدية لمنع حرب نووية بين روسيا وأمريكا، فإن كل ذلك قد يفقد روسيا القوة الرادعة لآخر سلاح تمتلكه وقد يجر على سلاحها هذا الويلات في تسويات ما بعد الحرب.
13- أما عن تراجع روسيا عن الضم كما ورد في السؤال فهو يعني حذف روسيا من الموقف الدولي وانتهاء تأثيرها فيه وهذا أمر ثقيل على القيادة الروسية، ولذلك فإن المتوقع أن تقف روسيا عند هذه المناطق الأربع، أي عند حدود الأقاليم التي أجرت فيها استفتاءات الضم، وربما تزيد عن ذلك قليلاً بمحاولة استعادة المناطق التي خسرتها في خاركوف، فيظهر الرئيس الروسي "قوياً" أمام شعبه وقد جلب مكاسب أرضية جديدة لروسيا بعد جلبه لجزيرة القرم سنة 2014، وهذا لو تحقق فإنه هدف صغير لدولة كانت تظهر بمظهر الدول العظمى التي تهدد بابتلاع أوكرانيا بكاملها في غضون فترة وجيزة. لكن على الجانب المقابل فإن أمريكا والدول الغربية تقوم بتشجيع أوكرانيا ودعم جيشها لتحرير هذه المناطق التي احتلتها روسيا، وبين زيادة الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا وبين تعبئة روسيا لجنود الاحتياط فإن ساحة الحرب في أوكرانيا ستشهد على الأرجح معارك طاحنة، وأنها ستدوم لفترة أطول، وفيما تضعف ضمانة روسيا بكسب الحرب إلا باستخدام الأسلحة النووية فإن الحرب في أوكرانيا تبقى مفتوحة على مزيد من المخاطر الدولية... وإذا كان وزير الخارجية الروسي لافروف يذكّر بأن روسيا لا ترفض المفاوضات، فإن أمريكا ومعها بريطانيا خاصة تظهران عزماً على جعل أوكرانيا الساحة التي يتم فيها شطب روسيا من قائمة الدول الكبرى. وبين صراع الإرادات هذا فإن ساحة أوكرانيا تبقى حبلى بالمفاجآت التي يمكن أن تقلب الأمور رأساً على عقب.
14- وأخيرا فإن الدول الكبرى في عالم اليوم تتصارع فيما بينها لتحقيق أطماعها الوحشية دون أن تعبأ بأية قيم إنسانية أو خلقية، فالظلم عندها ينقلب عدلا إن كان يحقق لها ما تريد حتى وإن كان ضاراً بالآخرين، حتى وإن كان شراً كله. لقد أكثرت هذه الدول في الأرض الفساد، ولن يصلح العالم إلا بزوالها، ومن ثم تعود الخلافة على منهاج النبوة بعمل العاملين وعون رب العالمين ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
السادس من ربيع الأول 1444هـ
2/10/2022م
رأيك في الموضوع