إن هذا سؤال متجدد بين العاملين للإسلام المتطلعين إلى النصر، يحركه فيهم الألم والمرارة والعذابات وضيق الصدور مما يواجهونه من المحن وشوقهم العظيم إلى عزة النصر الذي هو هبة الله لأنبيائه وأوليائه الثابتين على طريق الإيمان المنتظرين بعد طول العمل حلاوة المكافأة وفرحة الجائزة في الدنيا، وقد كان ذلك واقعا في أيام المعركة الأولى بين صحابة نبي الرحمة محمد عليه صلوات الله وسلامه وآله الأطهار، فنزل القرآن مطمئنا لهم مسريا عنهم أن علامة حدوث النصر تكون بعد استيئاس الخواص، وهو حالة لا تقع مع استيئاس العامة الذي قد يحصل في أوائل الأذى وعند مقدماته أو في منتصف الطريق، بل هو استيئاس الرسل ومن بعدهم قادة العمل ممن تميزوا في الصبر والثبات فصارت الفتنة منهم في موقع مزلزل يكاد الأفق معها أن يغلق تماما، عندها يقع الفرج ويأتي النصر وذلك مصداق قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾. فهذه آية بينة الدلالة على أن النصر إنما يقع للمؤمنين بعد بأساء وضراء وزلزلة تبلغ المنتهى في فزعهم إلى الله يقولون متى نصر الله؟ ومن ذلك حديث خباب رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري «شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
وهناك أمارة أخرى تتصل بنصر أهل الإيمان، فالنصر للإسلام يعني سقوط الطغاة أهل الدنيا الذين غرتهم أنفسهم فحسبوا أن حكمهم باق خالد، وذلك دأب أهل الدنيا حين تصفو لهم أجواؤها وتطمئن تحتهم مراكبها يظنون أن المقام طويل، لكن الله يعاجلهم بما لم يكن في حسبانهم، ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ وهذا واضح في قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. والذين يتفكرون، الذين فصل الله لهم آياته يعلمون حق العلم أن النصر يأتي يوم يأتي يكون الطغاة مغرقين في سكرتهم يحسبون أيامهم في هذه الدنيا مديدة فيأتيهم منجل الحصاد وهم يظنون أنهم قادرون عليها وقد استقر جمال الدنيا لهم في أعماق قلوبهم.
وفي زماننا هذا عزم متّقد طال أمده يتطلع أهله إلى النصر منذ البدايات بل كانوا يرونه قريبا جدا منذ الخطوات الأولى، لكنها سنة الله التي تغلب كل الحسابات فوقعت الفتن والمحن ولقي شباب الدعوة على مدى عقود صنوفا متكاثرة من الأذى والعذاب، فواجهتهم الأنظمة الطاغية بالقتل والتعذيب والسجن والمنع من السفر والعمل والطرد من الوظائف حتى هاجر كثير منهم في أطراف الأرض، ومع ذلك بقيت هذه الدعوة ثابتة صابرة معتمدة على الله الذي كتب لها ما هي فيه وما هي آيلة إليه، بل إن كثيرا من شبابها يستقلون بذلهم وتضحياتهم لأنهم يعلمون أن الهدف المبتغى عظيم وهو إقامة دين الله في الأرض، ابتغاء رضوانه وذلك هو الفوز العظيم.
كما أن الطغاة وأذنابهم الذين يواجهون الدعوة في منتهى غرورهم وكبرهم وبطشهم يرون هذا الإسلام فكرا أثريا غير قابل للحياة إلا في أطراف الصحراء لأن أنفسهم سولت لهم هذا وزينته لهم فزادت طمأنينتهم واشتد بطشهم بالدعوة بل وبالأمة كلها كبرا وعلوا وفسادا حتى صارت بلاد المسلمين اليوم تعيش ألوانا من الجوع والحصار والدمار لم تعرفها البشرية من قبل، ما أشعل هذا السؤال بين الناس بقوة وإلحاح، متى نصر الله؟! هل تأخر نصر الله؟!
والحق أن نصر الله لا يتأخر فإن له ميقاتا معلوما عند ربنا لا يجليه لوقته إلا هو، وإن أبلغ أماراته بعد شدة الفتن وطمأنينة الطغاة وأهل الدنيا هو وقوع هذا السؤال من خواص الأمة وعوامها. غير أن رسول الله ﷺ عالج خباباً بقوله الذي يثير في النفس يقينا عظيما وهو قَسَمُه عليه صلاة الله وسلامه أن الله سيتم هذا الأمر حتى يعم الحواضر من حولنا، ثم قال له ولكنكم تستعجلون.
ونحن اليوم نستعجل كما استعجل الذين من قبلنا وعلينا المزيد من الصبر الذي يرفده يقين بأن الله ناصر هذا الدين، فمن انشغل بموعود الله فهو منصور لا محالة، فالله تعالى لا يخلف الميعاد، وهو القائل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. وأي وعد هو أكثر بيانا ووضوحا من هذا في النصرة والتمكين وعودة راية الحق إلى أيدي الذين ظهرت فيهم حقيقة العبادة في أعلى صورهم يوم صبروا وثبتوا ومضوا في طريقة الخلافة بيقين المؤمنين في زمن قل فيه النصير وانعدم المأوى وصار أمر الناس إلى طواغيتهم!
وبذلك نزداد ثقة أن اشتداد هذا السؤال مؤذن بقرب الفرج ورفع الأغلال ونصرة هذا الدين، اللهم اجعل لنا منك في هذا النصيب الأوفى واكتبنا في خير من بذل الطاعات وأدى الأمانات وتحققت لهم نصرتك.
بقلم: الأستاذ يوسف مخارزة
رأيك في الموضوع