كثيرةٌ هي التساؤلات التي تدور هذه الأيام حول حقيقة الموقف الأمريكي مما يجري في سوريا، وخاصة بعد المواقف والتصريحات الأمريكية الأخيرة، الواضحة تارةً، بينما يعتريها شيء من الغموض والتناقض والتخبط تارة أخرى إزاء موقف أمريكا من نظام عميلها أسد واستمراره في سدة الحكم من عدمه.
فما هي دلالات هذه التصريحات وما مدى جديتها؟!
وهل تعكس فعلاً توجهاً أمريكياً جاداً للمجاهرة بتعويم نظام أسد المجرم؟!
وما علاقة ذلك بالحل السياسي الذي وضعت أمريكا أسسه في جنيف1 عام 2012م؟!
وهل تفكر أمريكا فعلاً بسحب قواتها من سوريا على غرار أفغانستان والعراق؟!
وهل يمكن أن تفعل ذلك قبل أن تسبقها روسيا وإيران؟!
هذا ما سنحاول استعراضه والإجابة عنه في السطور القادمة بإذن الله.
ولنعد قليلاً للوراء، لنرى أنه ومنذ انطلاق ثورة الشام عام 2011م، أدركت أمريكا أنها ثورة متميزة عن باقي انتفاضات المنطقة، بوضوح أهدافها وصدق هتافاتها.
ومع اشتداد عودها واتساع رقعتها وسرعة ارتقاء وتبلور مطالب أهلها وتحديدهم لثوابت تضمن نجاحها، ازداد يقين أمريكا أن نظام عميلها أسد بات في خطر حقيقي محدق، وأنه لا بد لها من تحرك جاد وسريع للحيلولة دون سقوطه.
وكعادتها في التعامل مع عملائها، ردحٌ وتراشقٌ أمام وسائل الإعلام وتوافقٌ وتنسيقٌ خلفها، سعت أمريكا من وراء ستار لدعم عميلها ومدّه بأسباب الحياة عبر عملائها وأدواتها في المنطقة لكبح جماح الثورة والالتفاف على مطالب أهلها. وراحت تمده بالمهل الدموية واحدة تلو الأخرى، وراحت تتلطّى خلف الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تظهر نفاقاً استياءها من الفيتو الروسي والصيني ضد أي قرار يدين عميلها أسد، بينما تضحك في الخفاء ملء فيها.
وعمدت إلى توزيع أقذر الأدوار على أعدائنا لإجهاض ثورتنا، فأوكلت إلى إيران وحزبها في لبنان والمليشيات الطائفية مهمة إنقاذ النظام، والبطش بمسلمي الشام، ليخضعوا ويقلعوا عن ثورتهم.
ولما عجزوا عن ذلك كان الضوء الأخضر الأمريكي لروسيا بالتدخل عام 2015م، في اليوم التالي للقاء أوباما بوتين في نيويورك.
فيما كان دور المكر والالتفاف والاحتواء من نصيب النظام التركي، ومعه كل من قطر والسعودية والأردن وكل من زعم نفاقاً "صداقة الشعب السوري"، فكان الضخ الرهيب للمال السياسي القذر، لشراء الذمم، وتجميد الجبهات، وحرف المسار، والدفع نحو جريمة الاقتتال بين الفصائل لقتل روح الثورة وتنفير الناس منها ولاستنزاف قوة الثورة والانشغال بالاقتتال عن إسقاط النظام، بالتوازي مع تقسيم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وتسليط حكومات وظيفية على رقاب الناس لترهقهم وتشغلهم بقوت يومهم عن هدفهم الذي خرجوا لأجله، مع هدن كارثية ومفاوضات أثيمة يخوضها من نصّبتهم أمريكا كواجهة سياسية ليتحدثوا باسم أهل الشام، والثورة وأهلها منهم براء.
إذاً، ومنذ سنوات الثورة الأولى أطلق أوباما تصريحات مسرحية أن نظام الإجرام قد فقد شرعيته وأنه يجب أن يخضع للمساءلة، فكان أن استخدم النظام كل الأسلحة المحرّمة، بل المفضلة دولياً لوأد الثورة، كالكيماوي وغيره، فما كان من أوباما إلا أن سعى لتنفيس مشاعر الغضب والاحتقان بأساليب شيطانية شتى، مع إعطاء الطاغية مهلاً دموية متكررة، وفرصة تلو الفرصة، للقضاء على الثورة.
وسار على نهجه خلفُه ترامب، الذي قصف مطار الشعيرات ببضعة صواريخ، كانت مثار سخرية الناس وتأكيداً لحقيقة أن من يقف خلف نظام الإجرام ويمده بأسباب الحياة هو أمريكا.
واليوم، ورغم إدراك أمريكا التام أن عميلها في الشام قد احترقت ورقته وسقطت هيبته ولم يعد يصلح لتلبية مصالحها، تجدها تطالعنا بمواقف وتصريحات تبين حقيقة موقفها من استمرار عميلها في الحكم، ولو مؤقتاً.
فمنذ أكثر من عام، طالعنا جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الأسبق إلى سوريا، بالقول إن "أمريكا لا تريد إخراج روسيا من سوريا ولا إسقاط النظام ولا تغيير بشار إنما فقط تعديل في سلوكه".
كما يوافق كلام جيفري ما قاله بلينكن، وزير الخارجي الأمريكي، قبل أيام: "لا نشجع التطبيع مع الأسد ولن نسمح بإعادة الإعمار حتى تتغير تصرفاته".
وفي مطلع الشهر الحالي أعلن الإنتربول الدولي عن رفع الحظر عن نظام الإجرام بعد إبعاده منذ عام 2012م.
فيما فتح النظام الأردني الحدود المغلقة منذ سنوات مع النظام المجرم عبر معبر جابر نصيب. خطوةٌ باركتها أمريكا ثم عادت وقالت إن موقفها من الموضوع "قيد الدراسة"، مع خطوات تطبيع اقتصادي وسياسي من خلال لقاءات مشتركة لمسؤولين أردنيين مع مسؤولين من نظام أسد، مع الحديث عن تسليم الغاز المصري والوقود الأردني إلى لبنان عبر سوريا.
أما إدارة بايدن فقد اتخذت قراراً بتخفيف بعض العقوبات المفروضة على أسد ضمن قانون قيصر، مع حراك سياسي مصري عراقي لإعادة نظام أسد إلى الجامعة العربية، وإعادة الإمارات والبحرين لفتح سفارتيهما في دمشق.
وقد عبر شكري، وزير الخارجية المصري، الناطق فعلياً بما تريده أمريكا عن أمله في أن "تُسفر الجولة المقبلة لأعمال اللجنة الدستورية عن تطورات إيجابية على مسار التسوية السياسية". تصريحٌ يؤكد خطورة لجنة صياغة الدستور كإحدى أدوات أمريكا القذرة للمضي قدماً في تطبيق خطوات الحل السياسي الأمريكي، والتي أنجزت حتى الآن ما يقارب 110 مواد بعيدا عن الضجيج والإعلام.
ويحضرنا هنا تصريح روبرت فورد آخر سفير أمريكي في سوريا: "سيبقى الأسد في السلطة، لا يوجد بديل عملي ولا يمكن تخيل طريقة تستطيع المعارضة السورية عبرها أن تكون قادرة على إجباره على التنحي"!
فأمريكا حتى الآن لم تجد البديل العميل المناسب المقبول شعبياً القادر أن يحل محل بشار.
مع التذكير أن موقف إدارة بايدن الحالي من نظام أسد ليس جديداً. فقد قالها جون كيري عام 2015م، أن طاغية الشام "سيترشح في الانتخابات، وعلى المعارضة أن تحاول ألا ينجح".
فيما صرح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بصفاقة أن "النظام السوري لم يوفر حتى الآن البيئة الآمنة لعودة اللاجئين والنازحين بصورة مستدامة وكريمة". بمعنى أنه وبعد كل جرائمه مرحبٌ به إن أظهر شيئا من التغير في سلوكه الإجرامي!
ومعلوم أن بسام الصباغ لا يزال ممثلاً رسمياً للنظام لدى الأمم المتحدة.
أما صحيفة واشنطن بوست فقد نشرت مقالاً للكاتب جوش روجين يؤكد فيه أن "بايدن أعطى تأكيدات صريحة بأنه لن يعاقب المطبعين مع النظام السوري بموجب قانون قيصر".
فيما أعطت واشنطن الضوء الأخضر لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتوسيع تجارة النفط مع نظام أسد، علما أن أحد أهداف عملية غصن الزيتون وبعدها نبع السلام هو دفع الأكراد للارتماء بحضن النظام أكثر فأكثر.
ومن خلال ما سبق، يظهر جلياً محاولات تعويم النظام وإعادة الشرعية له عبر البوابة الاقتصادية والأمنية وحتى السياسية.
وخلاصة القول: فإن أمريكا ليس لديها خيار آخر سوى العمل على تعويم نظام عميلها أسد، كأمر واقع تفرضه على الناس، أملاً منها في كسر إرادتهم، والمحافظة على مؤسسات الدولة، لتعمل لاحقاً على حصر المشكلة بشخص الرئيس، تمهيداً للمرحلة الانتقالية، ولإتمام تنفيذ الحل السياسي الذي يفرضه البطش العسكري. بحيث تبقى المؤسسات القمعية، الأمنية والعسكرية، جاثمةً على صدور الناس، مع دستورٍ علماني خالص يعلن الحرب على دين الله وعباده، مع محاولة تغيير شخص الرئيس إن رأت أمريكا عميلا مناسباً مع ظروف ناضجة لهذا العميل الجديد، وهذا بإذن الله لن يكون ما دام في مسلمي الشام عرق ينبض. فقد أقسموا على إسقاط النظام بدستوره وأركانه ورموزه ومؤسساته القمعية، وإقامة حكم الإسلام على أنقاضه عبر دولة الخلافة، مهما اشتدت الظروف وبلغت التضحيات. إذ لا تزال كل مقومات الانتصار حاضرةً لدينا، ولا يزال نظام الإجرام يعاني من كل عوامل التصدع والانهيار.
وما علينا إلا الأخذ بأسباب النصر، والالتفاف خلف قيادة سياسية تحمل مشروع خلاص من صميم عقيدة الأمة، ترسم لنا طريق الخلاص وخارطة الطريق للوصول للعاصمة دمشق، بعد التوكل الكامل على الله سبحانه، الذي وعد عباده بالنصر والتمكين، فقال عز من قائل: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع