انعقد في طرابلس يوم 21/10/2021 مؤتمر دولي ليوم واحد باسم "دعم استقرار ليبيا" شاركت فيه 27 دولة و4 منظمات دولية وإقليمية. وتركزت النقاشات فيه على مسارين؛ أمني عسكري وآخر اقتصادي.
وهو أول مؤتمر دولي ينعقد في طرابلس منذ عام 2010؛ وذلك لبعث رسالة بأن هذه الدول تعترف بطرابلس مركزا للدولة الليبية، وقد أشار رئيس الوزراء الليبي الدبيبة إلى ذلك بأن "عقد المؤتمر في طرابلس دليل على استعادة عافيتها ورمزيتها كعاصمة لكل الليبيين". فتنقل إليها الأعمال السياسية ومؤسسات الدولة، ولتأكيد الاعتراف بالنظام السياسي القائم فيها في الحدود التي رسمها المستعمر منذ أن أقام فيها دولة ونصب عملاءه من الملك السنوسي إلى القذافي، وكاد الشعب أن يتحرر ويبحث عن هوية للدولة التي ستقام وكانت ستكون إسلامية حيث اندفع بمشاعره الإسلامية، فتدخل الغرب المستعمر بحلفه الناتو بذريعة نصرة الشعب الليبي فأشاع فيه الفوضى والاضطرابات ووظف عملاءه لذلك ومنع تحرر ليبيا من قبضته.
أكد البيان الختامي للمؤتمر على وحدة ليبيا وسيادتها، أي على بقائها نظاما سياسيا مستقلا عن باقي البلاد الإسلامية المفترض أن تكون وحدة واحدة في دولة إسلامية واحدة. وأكد إجراء الانتخابات في موعدها يوم 24 كانون أول/ديسمبر القادم وإيجاد البيئة المناسبة لعقدها وضرورة أهمية اتخاذ التدابير اللازمة والاستحقاقات لبناء الثقة، واتخاذ إجراءات عقابية صارمة بحق معرقلي العملية السياسية. أي أنهم يفرضون نظاما سياسيا بشكل صارم كما يريدون. ودعت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش في مؤتمر صحفي بختام المؤتمر "كل الدول إلى إعادة سفاراتها إلى العاصمة طرابلس"، وأعلنت أن "الحكومة ملتزمة بتنفيذ كل القرارات الدولية وبينها نتائج مؤتمر برلين، وأنها تدعم جهود اللجنة العسكرية بشأن خطط وقف إطلاق النار والجهود المبذولة من اللجنة العسكرية 5+5".
لقد تمكنت أمريكا بواسطة مبعوثة الأمم المتحدة بالإنابة الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز من عقد مؤتمر جنيف الذي تمخض عن انتخاب رئيس لمجلس الرئاسة ونائبيه وانتخاب رئيس للوزراء يوم 5/2/2021 ومن ثم تمكن الأخير من تشكيل حكومة في طرابلس وأخذ الثقة من البرلمان، وتم انتقال السلطة بسلاسة من رئيس الوزراء السابق فايز السراج إلى رئيس الوزراء الجديد عبد الحميد دبيبة في آذار الماضي يوم 16/3/2021، وحددت الدبلوماسية الأمريكية موعد إجراء الانتخابات يوم 24/12/2021، وهي التي شكلت اللجنة العسكرية 5+5. ولم تتمكن بريطانيا من فعل ذلك رغم عقدها العديد من مؤتمرات الحوار بين الأطراف الليبية في بوزنيقة بالمغرب. وبذلك كانت هذه الجولة لصالح أمريكا مقابل خسارة بريطانيا وأوروبا حيث كانتا تدعمان حكومة السراج، وتعملان على انتخاب رجال تابعين لها.
عندئذ اتجهت الدول الأوروبية لعقد مؤتمر برلين-2 بمبادرة من ألمانيا، فعقد في عاصمتها يوم 23/6/2021 وحضره وزراء خارجية أكثرية الدول المشاركة، وقد ركز المؤتمر على "ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة دون تأخير" وعلى "ضرورة بدء مجلس النواب بالإجراءات القانونية وإصدار القوانين المتعلقة بالانتخابات النيابية والرئاسية المنتظرة في 24 كانون الأول المقبل"، ودعا المؤتمر "مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في ليبيا إلى ضرورة الاتفاق على المناصب السيادية" وركز على الجانب الأمني حيث دعا إلى "ضرورة استكمال بنود وقف إطلاق النار، وإحراز تقدم بفتح الطريق الأمني الساحلي" ودعا "الأطراف المعنية إلى التخلي عن أية أعمال من شأنها تأجيج الصراع في ليبيا ومن بينها تمويل القدرات العسكرية أو تجنيد مقاتلين ومرتزقة أجانب". وقد أكد المؤتمر ما تمخض عنه مؤتمر جنيف. إلا أن أوروبا أرادت أن تثبت دورها في الشأن الليبي خوفا من أن تقصى عنه. حتى إن رئيس وزراء بريطانيا جونسون دعا نظيره الليبي الدبيبة ليجتمع معه في لندن يوم 24/6/2021 مكررا القرارات الصادرة نفسها، وذلك لتأكيد حضور بريطانيا خاصة في المشهد الليبي. وقد شكت أوروبا من ضعف تأثيرها في الشأن الليبي فدعت إلى تشكيل قوة تدخل سريع مقابل القوى الموجودة هناك وخاصة التركية والروسية، إلا أنها لم توفق بسبب ضعف إرادة القتال لديها وخوفها من الهزيمة الساحقة إذا أرادت ذلك دون موافقة أمريكا ودعمها.
وأوروبا تبدي اهتماما شديدا بموضوعين أكثر من غيرهما، وهما: إخراج المقاتلين الأجانب فورا لكون أعمالهم العسكرية تصب في الخطة الأمريكية، والثاني إجراء الانتخابات في موعدها على أمل أن توصل عملاءها لسدة الحكم والفوز بأكثرية المقاعد لكون الوسط السياسي ما زال يتشكل أكثره من عملائها وخاصة عملاء الإنجليز، ولئلا تمنح أمريكا فرصة أكبر لتركز نفوذها وتحقق مزيدا من المكاسب السياسية.
ولهذا فإن الأمر في ليبيا ما زال معقدا وشائكا أي متشابكا بسبب الصراع الدولي فيها وخاصة بين أمريكا وأوروبا. فاتفاق الأطراف المحلية أو عدم اتفاقها مرهون بتبعيتها للدول الكبرى المتصارعة. وهذه القوى المحلية هي التي قبلت على نفسها الارتباط بالقوى الأجنبية لتحقيق مآربها الشخصية والفئوية. وقد صرح مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة طاهر السني عبر حسابه على تويتر يوم 24/6/2021: "إذا أردنا تحرير إرادتنا واسترجاع سيادتنا علينا الاحتكام للشعب ليقرر مصيره بنفسه، الواقع أننا لسنا أولوية لهم فأزمتنا ورقة يتلاعبون بها لتصفية حسابات أخرى بعيدة عنا".
إن الدول الاستعمارية دائما تعمل على تدويل قضايا المسلمين حتى تتمكن من التدخل وبسط النفوذ ومن ثم تحقيق مآربها الاستعمارية. ومؤتمر دعم استقرار ليبيا ما هو إلا تدخل أجنبي يجعل استقرار البلد رهنا بأيديها، فالدولة المستقلة حقا تكسب الدعم من شعبها حيث تستمد سلطانها من الأمة، وليس من الدول الأجنبية، وتجعل السيادة لمبدئها، وفي ليبيا يجب أن تكون السيادة للشرع الإسلامي. وهنا تظهر خطورة تدويل قضايا المسلمين، ولجوء الأطراف المحلية من حكام وأحزاب سياسية إلى الدول الكبرى لحل مشاكل بلادهم ونيل الدعم لاستقرارها منها وهي تشترط عليهم الشروط الاستعمارية الصارمة. فهي تمكن القوى الاستعمارية من البلاد وتفتح لها الطريق للاستحواذ على ثرواتها وجعلها سوقا لمنتوجاتها ونقطة انطلاق لأعمالها الاستعمارية في المنطقة. فاللجوء إلى الدول الكبرى والقبول بتدويل قضايا المسلمين جريمة نكراء، وهي محرمة شرعا. قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
رأيك في الموضوع