أطاحت القوات الخاصة الرئاسية بقيادة مامادي دومبويا بالرئيس الغيني ألفا كوندي الذي تم اعتقاله، وتم حل الحكومة وجميع المؤسسات الرسمية، وعُطّل الدستور، وأغلقت الحدود البرية والجوية للدولة.
وبرر الانقلابيون بزعامة دومبيا انقلابهم هذا بسبب ما أسموه بــ: "الوضع السياسي الرهيب الذي آلت إليه البلاد، وانتهاك مبادئ الديمقراطية، واستقلال القضاء، وتسييس الإدارة العمومية، وتدهور الوضع المعيشي، والحريات العامة"، وكان الرئيس المطاح به ألفا كوندي قد غير الدستور للترشح لولاية ثالثة، فأعطى سبباً آخر للعسكر للقيام بالانقلاب عليه.
وتحظى غينيا كغيرها من دول غرب أفريقيا بأهمية استراتيجية كبيرة وبموارد يسيل لها لعاب القوى الاستعمارية، لذلك باتت تُعتبر ساحة تنافس محمومة يتدافع نحوها العديد من اللاعبين الدوليين بحثاً عن النفوذ والموارد والهيمنة.
وبالإضافة إلى الصراع التقليدي عليها بين فرنسا وأمريكا وبريطانيا، فقد دخلت روسيا والصين بثقلٍ كبير على الخط، وباتت تلاحَظ محاولات عسكرية واقتصادية جادة من قوى كبرى جديدة كروسيا للإطاحة بالنفوذ الفرنسي في أفريقيا، خاصة وأنّ أمريكا غضّت الطرف عن التدخل الروسي المكثف في أفريقيا، حيث قال الجنرال ستيفن تاونسند قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) في إفادته أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس في حديثه عن المنافسة الروسية والصينية لبلاده في أفريقيا: "أنا أقلُّ قلقاً بشأن المنافسة الروسية، أعتقد أنهم (الروس) أقل أهمية بالنسبة لي على المدى الطويل مقارنة بالصين، الصين مصدر قلق اليوم وعلى المدى الطويل".
كانت أمريكا قد نجحت في الإطاحة بالنفوذ الفرنسي من غينيا في انقلاب موسى كامارا في العام 2008، لكنّ النفوذ الفرنسي والأوروبي بقي إلى جانب النفوذ الأمريكي، ولم يُزل تماماً، ثمّ بعد عامٍ واحد من الانقلاب تمت الإطاحة بكامارا، وعاد النفوذ الفرنسي إلى البلاد في العام 2009 من خلال انقلاب سكوبا كونتي، ثمّ ومن خلال ألفا كوندي الذي جاء بعد إجراء أوّل انتخابات عامة بعيداً عن تحكم العسكر في العام 2010 كرئيس توافقي بين النفوذين الفرنسي والأمريكي استقرّ النفوذ الفرنسي إلى جانب النفوذ الأمريكي في غينيا.
إلا أنّ كوندي قد دفعته أمريكا للتعاون مع روسيا، فأدخل الشركات الروسية ومرتزقة (الفاغنر) الروسية إلى غينيا، وقامت روسيا بتقديم دعم سياسي كبير له خاصة بعد قيامه بإجراء تعديلات دستورية تسمح له بالاستمرار في السلطة، بالرغم من اعتراض فرنسا على تلك التعديلات، وسمح كوندي كذلك للشركات الروسية بالتنقيب عن البوكسيت في غينيا مما أثار حفيظة فرنسا.
وأصبحت الدول الأفريقية العميلة لأمريكا أو التي فيها نفوذ أمريكي كبير تسمح لروسيا ببناء قواعد عسكرية كمصر وأفريقيا الوسطى وإريتريا ومدغشقر وموزمبيق والسودان، وباتت غينيا مُرشحة لإقامة قواعد روسية فيها كتلك الدول.
وتغلغل مرتزقة (فاغنر) الروسية في أفريقيا بتمردات مسلحة عدة ضد عملاء فرنسا، ومن هذه الدول غينيا، فأحست فرنسا بالخطر وسارعت للإطاحة بكوندي في الانقلاب الأخير لكي لا يتكرر سيناريو أفريقيا الوسطى الذي سيطرت روسيا من خلاله على الرئاسة.
الانقلاب فرنسي بامتياز:
بثّت وسائل إعلام فرنسية الأحد الماضي مقطعا مصورا يظهر فيه قائد القوات الخاصة مامادي دومبويا وهو يعلن تنفيذه انقلابا على الرئيس الغيني ألفا كوندي واعتقاله، وتناولت وسائل الإعلام معلومات عن قائد الانقلاب دومبويا الذي انقلب على رئيسه بأنّه استمد جميع أفكاره العسكرية وتدريباته من خلال مسيرته مع الجيش الفرنسي، وكان عضوا في الفيلق الأجنبي الفرنسي، قبل أن يتم استدعاؤه إلى غينيا ليسلمه الرئيس ألفا كوندي قيادة قوات النخبة عام 2018، التي شُكلت حديثا في ذلك الوقت، وتخرج دومبويا من المدرسة العسكرية في العاصمة الفرنسية باريس، وقاتل مع الفيلق الأجنبي الفرنسي سنوات، ولديه نحو 15 عاما من الخبرة مع الجيش الفرنسي، شملت إرساله في تدريبات وبعثات إلى كوت ديفوار وجيبوتي وجمهورية أفريقيا الوسطى وأفغانستان وأماكن أخرى، كما أرسلته فرنسا أثناء عمله في صفوف قواتها إلى كيان يهود والسنغال والغابون لتلقي تدريبات متخصصة بوصفه خبيرا في إدارة الدفاع والقيادة والاستراتيجية.
وهذه العلاقة الوطيدة التي تجمع بين دومبويا والفرنسيين عزّزها بزواجه من امرأة فرنسية، عضو في الدرك الوطني الفرنسي، وأنجب منها 3 أبناء، حسب ما نقلته تقارير إعلامية.
وتقول المصادر الإعلامية إنّ هذا الانقلاب الذي شهدته غينيا لا يُعتبر مفاجئا، فميول دومبويا الانقلابية على نظام كوندي بدأت منذ إعلانه رغبته في جعل قوات النخبة مستقلة عن وزارة الدفاع، وقالت صحيفة جون أفريك الأحد الماضي إنه في الأشهر الأخيرة أثارت رغبة دومبويا في استقلال وحدته العسكرية عن وزارة الدفاع مخاوف من صراع على السلطة، وأشارت إلى نشوب مشكلات بالفعل بين دومبويا والحكومة في كوناكري عندما تم منعه من الاستقلال بقوات النخبة عن وزارة الدفاع.
تنظر فرنسا إلى غينيا باعتبارها منطقة نفوذ تقليدية خاصة بها نظراً لماضيها الاستعماري فيها منذ عقود، وتُعد غينيا ومجموعة الدول الفرانكفونية في أفريقيا سوقاً استهلاكية ضخمة للصادرات الفرنسية، ومصدراً مهمّاً للحصول على الموارد والثروات الطبيعية، خاصة أن المنطقة قد أصبحت إحدى مصادر الطاقة بالنسبة لها ولأوروبا، لا سيما النفط والغاز واليورانيوم، وفوق ذلك فإن غينيا تُعتبر أكبر مُصدّر في العالم لمادة بوكسيت الخام التي يصنع منها الألمنيوم.
لقد أضحت منطقة غرب أفريقيا والساحل والصحراء في الواقع ساحة جديدة للتنافس على النفوذ والهيمنة بين روسيا وفرنسا، واتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون روسيا في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، باتباع استراتيجية تهدف لتأجيج المشاعر المعادية لباريس في قارة أفريقيا.
وهذا الصراع الروسي الفرنسي قد حلّ - وبإرادة أمريكية - محل الصراع الأمريكي الفرنسي.
وهكذا تبقى أفريقيا مرتعا للقوى الاستعمارية الكبرى فتُنهب ثرواتها ويُقتل أبناؤها إرضاءً لشهوات وأطماع الرأسماليين الكبار، ولا تنال الشعوب الأفريقية من هذه الصراعات بين الكبار سوى الحروب واللجوء والخراب، ولا ينتج عنها إلا الموت والفقر والدمار.
رأيك في الموضوع