عند استعراض أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية نجدها صنفين:
الأول: نظام حكم أنزله الله على أنبيائه لسياسة الناس بشرعه، ومنه نظام الحكم في الإسلام، قالَ ﷺ: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ»، المشرع فيه هو خالق الكون والإنسان والحياة، المتصف بصفات الكمال المطلق، المحيط بكل شيء علما، فلا يأتيه نقص ولا قصور، وهو التشريع الصالح للبشرية إلى قيام الساعة، وهو تشريع خال من الهوى، وينعم بعدله المؤمن والكافر.
الثاني: نظام حكم من وضع البشر صانعه إنسان هواه لا يفارقه، وأساس تشريعه الهوى، قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾، وهو نظام ديكتاتوري، إما بصورة صريحة، باستبداد جهة ما بصلاحيات مطلقة، فهي المشرعة وهي المنفذة ولا تخضع لأي مساءلة، ولا تقبل أي رأي آخر، كنظام الملوك والأباطرة، وإما بطريقة مخادعة تحتال على الجمهور بشعارات مزيفة، وفي حقيقتها هي أنظمة مستبدة، ومنها النظام الرأسمالي الذي يدعي الديمقراطية.
ولتوضيح الصورة نلقي نظرة سريعة مختصرة على مفهوم الديكتاتورية:
فالديكتاتورية هي شكل من أشكال الحكم، يكون فيها شخص واحد أو حزب واحد أو مجموعة صغيرة تمتلك السلطة المطلقة، وهي آتية من اللغة اللاتينية، فديكتاتور تعني تعيين قاض بشكل مؤقت يمنح صلاحيات استثنائية كبيرة من أجل التعامل مع أزمة تمر بها الدولة. وأصبح اصطلاحا يطلق على كل حكم مطلق، يجمع فيه الحاكم كل السلطات؛ التشريع والتنفيذ، فلا يسأل عما يفعل، ولا يسمح بأي رأي آخر. وأطلقته الرأسمالية على كل ما خالف ديمقراطيتها حتى وإن كان نظاما ربانيا.
ومما لا خلاف فيه أن الأنظمة الملكية المطلقة ينطبق عليها المصطلح. ولكن هل النظام الديمقراطي هو نظام ديكتاتوري؟
عند دراسة النظام الديمقراطي بعمق نجد ظاهره ديمقراطيا وحقيقته ديكتاتوريا.
كيف ذلك؟ على النحو التالي:
- يقولون إن الحكم للشعب وأن الشعب هو مصدر السلطات؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، والحقيقة أن الشعب لا يشرع ولا ينفذ ولا يعين القضاة.
وما يجري في الواقع هو عملية انتخابية تكلف المليارات التي لا طاقة للعامة بها، فينبري لها أصحاب رؤوس الأموال الذين يؤسسون الأحزاب وينفقون الأموال الطائلة لسوق العامة بالوعود الكاذبة، وتحت تأثير الإعلام المضلل، حتى غدوا هم الحكام الحقيقيين وأصبحوا هم المتحكمين في التشريع، وكان وصفه بالرأسمالي هو أصدق وصفا له.
- ففي النظام الديمقراطي الرئاسي تجتمع كل الصلاحيات بيد الرئيس وهو وحده الذي يعين مستشاريه ووزراءه وسائر أفراد إدارته ولا علاقة للشعب بذلك.
- وفي النظام الديمقراطي البرلماني، الحزب الفائز هو من يملك كل الصلاحيات وهو الذي يشكل حكومته وينفذ برامجه، وبحكم غالبيته في البرلمان هو الذي يمرر التشريعات التي يريد، ولا علاقة للشعب في كل ذلك، ونواب الشعب ليس لهم إلا التصويت على ما يعرض عليهم من تشريعات هي إحدى خيارات الحاكم الحقيقي رئيسا كان أم حزبا (الدولة العميقة)، فلم تعرف البشرية نظاما مثيلا له في وحشيته وجشعه، يتحكم فيه قلة من الرأسماليين الذي صاغوا التشريعات وحددوا القيم التي تخدم مصالحهم على حساب الأخلاق والإنسانية وسحق الشعوب.
ووفق تعريفهم للديكتاتورية نجد النظام الرأسمالي نظاما ديكتاتوريا بشعا مغلفا بديمقراطية خادعة، ظاهره الرحمة وحقيقته قبح وشقاء وإجرام، فإذا أتت الديمقراطية لهم بربح رحبوا بها، وإن عارضت مصالحهم سحقوها تحت أقدامهم!
وعودا إلى نظام الحكم في الإسلام نجد أنه نظام متميز عن سائر الأنظمة الوضعية؛ فهو ليس نظاما ديمقراطيا الناس فيه هم المشرعون، ولا ديكتاتوريا، بل إنه نظام رباني مأخوذ من الوحي، مما شرعه الله لعباده:
- السيادة فيه للشرع، فالمشرع هو الله وحده، والعقيدة الإسلامية هي أساس دولته، ومنها ينبثق دستورها وسائر قوانينها، وتقوم بسياسة الدنيا وحراسة الدين، تنظر للرعية نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو اللون أو الدين.
- السلطان فيه للأمة، فهي التي تبايع خليفتها فلا يكون خليفة إلا من جاء عن طريقها ببيعة رضا واختيار، قال عمر بن الخطاب في خطبة له "من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا"، وهذا على مسامع الصحابة وإجماعهم.
فلم يعرف التاريخ أرقى من طريقة الإسلام في اختيار الخليفة، فيجب أن يحوز شروط انعقاد واستمرار، منها الإسلام والعدالة والكفاية، ثم شروط أفضلية منها الاجتهاد، ثم شروط جعلية يشترطها المسلمون عليه.
- للخليفة وحده حق تبني أحكام شرعية بناء على قوة الدليل ليسنها قوانين لرعاية الشؤون، وهو واجب الطاعة في غير معصية، وأمره نافذ ظاهرا وباطنا، ورأيه يرفع الخلاف، قال أبو بكر في أول خطبة له "أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
- دولة الإسلام دولة بشرية، فأوجب الله على المسلمين مراقبة الحكام مراقبة فاعلة، تكون الأمة كلها معه في حال إحسانه، وتقف كلها في وجهه وتأخذ على يده في حال إساءته، وتعزله إن لزم الأمر، وتنابذه بالسيف إن أظهر الكفر البواح، وذلك عبر مؤسسات فاعلة منها:
- مجلس أمة يمثل الأمة تمثيلا حقيقيا، ويعبر عن إرادتها، يراقب ويحاسب.
- محكمة مظالم تملك محاكمة الحكام والولاة وتعزلهم إن استحقوا العزل.
- أحزاب حقيقية لها جمهور عريض تراقب وتحاسب الحاكم تعينه في إحسانه وتقوم اعوجاجه.
- القيام بفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا.
- كل ذلك بوعي الجماهير على دينها وحقوقها، وغرس عزة الإسلام في النفوس الأبية، التي لا تنام على ضيم ولا تأخذها في الله لومة لائم.
أما بالنسبة للشورى في الإسلام فإن الله قد أوجب على الحاكم استشارة المسلمين وجعلها حقا من حقوقهم، ومدحهم على ذلك، قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.
إلا أن الشورى ليست للتشريع وإنما لأخذ الرأي مطلقا، وتكون على النحو التالي:
- الرأي التشريعي الذي يتطلب اجتهادا في النصوص فيؤخذ فيه بقوة الدليل ولا قيمة لكثرة أو قلة.
- الرأي الفكري والفني يؤخذ فيه برأي أهل الخبرة والاختصاص، ولا قيمة للغالبية، كما وقع في معركة الخندق وفي بدر حيث أخذ الرسول برأي الخبرة الحربية وترك رأيه اعتمادا على الصواب.
- الرأي المتعلق بعمل فيه قضاء مصالح الناس، فيؤخذ برأي الغالبية.
فكانت الشورى منارة هدي واسترشاد، وتأليفا للقلوب وتوحيدا للصفوف، وحفظا للأمة وكيانها ودولتها، وعزة لكل من استظل بظلها. ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ سعيد رضوان أبو عواد
رأيك في الموضوع