لا زال المشهد السياسي في ليبيا يتّسم بكثير من الغموض والتعقيد، ولا زال الحذر هو سيد الموقف، والمخاوف من فشل الحلول السياسية وعودة التوتر والحروب من جديد.
وزاد من هذا التعقيد في المشهد تلك التصريحات الأخيرة لوزيرة خارجية ليبيا نجلاء محمد المنقوش التي أحدثت ضجة إعلامية كبيرة محليا ودوليا وردود فعلٍ غاضبة في كثيرٍ من مواقع التواصل الإلكتروني داخل ليبيا، حيث تصف المنقوش بأنها موالية لحفتر وتروج لمشروعه وتبرر له حربه على طرابلس.
ورأينا كيف أن أحد هذه التصريحات الذي قالت فيه الوزيرة إنها ستعمل على إخراج القوات التركية من ليبيا، قد أزعج الحكومة التركية، فأسرعت بإرسال وفد إلى طرابلس رفيع المستوى يضم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات، ورأينا كيف ركز الوفد التركي على أهمية العلاقة بين البلدين وأهمية الاتفاقية المعقودة بينهما وأهمية الدور التركي في ليبيا الذي لولاه - كما قالوا - لما تم وقف إطلاق النار ولما انتهت الحرب.
ورأينا رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة بعد هذه الزيارة كيف أشاد بهذه الاتفاقية وأنه لن يفرط فيها لأنها تحقق مصالح ليبيا. وفي قوله هذا طمأنة وترضية للوفد التركي واعتذار منه عن تصريح وزيرته التي يبدو أنها مفروضة عليه.
وعلى خلفية تصريحات الوزيرة نجلاء المنقوش وتصرفات الحكومة الضعيفة، تنادى بعض قادة المحاور لقوات بركان الغضب وعقدوا ملتقى لهم طالبوا فيه بإقالتها وإقالة رئيس الاستخبارات المعين حديثاً والمحسوب على النظام السابق، وتثبيت رئيس الأركان اللواء الحداد، وغير ذلك من المطالب. ويبدو أن ثوار فبراير وقادة بركان الغضب الذين تصدوا لعدوان حفتر على طرابلس قد شعروا بأن الحكومة الجديدة قد همشتهم وتجاوزتهم في التشكيلات الوزارية والتعيينات، وأدركوا أن حضورهم في المشهد الحالي لم يتناسب مع ما قدموه من جهود وتضحيات في التخلص من النظام السابق وفي الحرب الأخيرة مع حفتر، وأن الأمور في المشهد الحاضر لا تجري كما يريدون ويأملون.
ومن المستجدات منع رئيس الوزراء الدبيبة من النزول في مطار بنينة ببنغازي هو ووزراؤه ومنعهم من عقد اجتماعهم هناك، وربما كان سبب ذلك هو عدم زيارة الدبيبة لحفتر في مقره بالرجمة، وعدم أخذ الإذن منه في المجيء إلى بنغازي، وهناك سبب آخر هو تصريح الدبيبة بأنه سيعيد بنغازي إلى حضن الوطن مما أثار عليه موجة من الاحتجاجات في المنطقة الشرقية، ودفع بالدبيبة إلى أن يقول في برنامج بلا حدود على الجزيرة، بأن تصريحه ربما كان خطأً وأنه هو سيعود إلى حضن بنغازي، ويبدو أن هذا الاعتذار قد أرضى غرور حفتر فسمح بذهاب وفد كبير من مشايخ وأعيان المنطقة الشرقية إلى طرابلس، وزيارتهم للدبيبة ودعوتهم له بالذهاب إلى بنغازي من جديد.
وعلى ذكر برنامج بلا حدود فقد سُئِل الدبيبة عن دور حفتر في المشهد الحالي فتهرب من الإجابة وتلعثم وكُرر عليه السؤال فقال: هو عسكري.. وطلب منه التوضيح فقال: إن الوضع هش.. ولم يكمل. وربما يعني بقوله (هو عسكري) أن يكون تابعاً لحكومته وله شخصياً باعتباره وزيراً للدفاع ولكن الواقع غير ذلك. فتوحيد المؤسسة العسكرية يبدو حالياً شبه مستحيل مع وجود حفتر بوضعه وصفته الحالية. ويبدو أن حفتر باعترافه بالمجلس الرئاسي الجديد والحكومة الجديدة يريد أن يحصل على ما لم يحصل عليه بالحرب، فقد أصبح له وزراء ووكلاء في الحكومة الجديدة ومسؤولون آخرون في مؤسساتٍ مختلفةٍ، وتخلص من العبء الثقيل المتمثل في الحكومة المؤقتة التي كانت في المنطقة الشرقية، وتحصل على مكاسب جديدة من الحكومة الحالية بتحملها لمسؤولية الإنفاق وتسييل الميزانيات ورصد المبالغ لإعادة إعمار بنغازي ودرنة وغيرها من المناطق المتضررة جراء الحرب التي كان سبباً فيها، كما تحقق له مكسب آخر مهم وهو توحيد مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح الذي كان دائما يدعمه في مشروعه وحروبه.
لقد أصبح مجلس النواب بعد توحده واجتماعه هو من يتحكم بالحكومة؛ فهو الذي منحها الثقة وهو الذي يتحكم في الموافقة على الميزانية التي لم يوافق عليها إلى الآن، ولم يبق من السنة المالية إلا شهور.
وإنه لأمر لافت للنظر أن يبقى عقيلة صالح على رأس هذا المجلس بعد أن انشق عليه غالبية النواب وتركوه في طبرق وحده أو مع مجموعة صغيرة، وحصل النواب المنشقون على النصاب القانوني للأغلبية واجتمعوا في مدن: غدامس وصبراتة وطرابلس. ولم يستطيعوا عزل عقيلة صالح ولا حتى تعديل اللائحة الداخلية للمجلس، ولم يستطيعوا اختيار رئيس آخر للمجلس بدل عقيلة صالح، مع أن الاتفاق الجديد الذي أتى بالمجلس الرئاسي والحكومة الجديدة ينص على نظام المحاصصة في المناصب السيادية، أي أن رئيس المجلس الرئاسي من المنطقة الشرقية، ورئيس الوزراء من المنطقة الغربية، ورئيس مجلس النواب المفترض أن يكون من المنطقة الجنوبية وهو ما لم يحصل حتى الآن.
فما هذه القوة وهذا النفوذ وهذه الضغوطات التي أجبرت مجلس النواب على توحيد موقفهم ومنحهم الثقة للحكومة، ومن هي هذه الجهة أو تلك التي أرادت أن تبقي على هذين الشخصين - حفتر وعقيلة - في منصبيهما رغم كل الجدل والاختلافات حول المناصب السيادية والشخصيات الجدلية؟
وهكذا نرى أن ضعف المسلمين وابتعادهم عن دينهم الذي هو مصدر قوتهم، وعدم وعيهم بواقعهم وارتهان كل حكامهم ومسؤوليهم لإرادة الدول الكافرة الكبرى هو الذي جعل هذه الدول تتلاعب بمصائر الشعوب المسلمة وتتلاعب بثرواتها وإمكانياتها كيف تشاء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بقلم: الأستاذ محمد صادق
رأيك في الموضوع