لا شك أن الانتخابات الأمريكية حدث مهم لكل من يمتهن السياسة دولة كان أو حزباً؛ ذلك أن أمريكا ما زالت ودون منافس حقيقي تتربع على عرش الدولة الأولى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، لذلك لم تكن متابعة الانتخابات الأمريكية هواية أو تضييعاً للوقت وإنما لما لها من تأثير على الدول في الخارج من حيث طبيعة علاقاتها بها وهذا ما يهمنا؛ وبطبيعة الحال ويكاد يكون ثابتاً من ثوابت السياسة الأمريكية أن أمريكا بحزبيها الجمهوري والديمقراطي لها سياسة خارجية ثابتة ليست محل جدال بين الحزبين ولا تتأثر بطبيعة من يسكن البيت الأبيض أو يكون في الخارجية، وهذا حال أي دولة مبدئية. فدولة الخلافة مثلا كانت تضع الخطط لفتح البلاد وحمل الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد؛ وهذه استراتيجية ثابتة لا تتغير بشخص الخليفة، فالدول الكبرى تضع استراتيجيات ثابتة لا تتغير بتغير الأشخاص أو الأحزاب، وأمريكا ليست بدعاً من الدول العظمى، فهي ومنذ الحرب العالمية الثانية قد وضعت الاستراتيجيات الدائمة التي لا يكون فيها أي تغيير، فصنعت الصندوق والبنك الدوليين ليكونا أداة لها في ضبط حركة الاقتصاد والمال، وبالتالي السيطرة الاقتصادية على الدول، وأنشأت الناتو لتجعل منه أداة تضرب به كل من خالفها، وفي سبيل وصولها إلى الأسواق، أسست منظمة التجارة العالمية.
وهكذا أشرفت على صناعة نظام عالمي حتى تحكم سيطرتها على الدول، مرة باسم العولمة ومرة باسم محاربة (الإرهاب)، وهكذا وضعت استراتيجيات وداومت عليها ولا زالت، وإن كانت تخفق أحيانا وتنجح أحيانا أخرى.
إلا أن أمريكا مع مجيء ترامب بدأت تنقلب على مؤسسات وهيئات أشرفت عليها بنفسها وصنعتها على عينها وأحكمت صناعتها، فمرة تجد إدارة ترامب بشخص رئيسها تتهكم على الناتو، ومرة تنسحب من منظمة التجارة والصحة العالميتين، ومرة تفرض الرسوم والضرائب على التجارة الخارجية من أوروبا والصين وغيرهما، وتنسحب من اتفاقية التغير المناخي... وهكذا.
وقد كان هذا السلوك من ترامب وحزبه الجمهوري نذيراً، ربما للسياسيين، من تغير بعض ما كان ثابتا في الاستراتيجية الأمريكية، ولعل هذا من الأسباب التي استدعت إعادة الأمور إلى نصابها، فالرجل ليس خليقاً بالحكم، وإنما كان يريد أن يدير الدولة الأمريكية كشركة من شركاته بمنطق استعجال الربح واستبطاء الخسارة، ومع أنّ بعض المحللين لم ينظروا للأمر من زاوية مبدئية، فقالوا بأن ترامب سيأخذ حظه في دورة ثانية، فهو قد حقق لأمريكا ما لم يحققه أسلافه حسب زعمهم، إلا أن المشاهد المحسوس والذي نراه بأم العين هو أن الديون الأمريكية الخارجية والداخلية بازدياد مستمر، وأن حجم البطالة مرتفع، وعجز الموازنة يزداد سنة بعد أخرى... فالدول لا يجري تناولها كما تتناول الشركات، فأمريكا ومع أنها ما زالت هي الدولة الأولى في العالم، إلا أنه قد أصابها خطر مبدئي، والظن أن بعض السياسيين فيها أدركوا هذا فكان لا بد من تداركها وإنقاذها من الأحمق ترامب، ولا أدلّ على ذلك من أن الكثير من الجمهوريين وقفوا ضد إعادة انتخابه، بل وهنأوا بايدن على فوزه، وكذلك الاستقالات والإقالات منذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض والتي تكاد تدخل كتاب غينيس للأرقام القياسية والتي كان آخرها إقالته وزير الدفاع مارك إسبر.
إن فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية ربما يشير إلى وجود بعض العقلاء من السياسيين والدولة العميقة التي تأتي بالرئيس، والتي لو كانت مصلحتها مع ترامب وحزبه الجمهوري لمكنته من أن يكون رئيس أمريكا لفترة ثانية ولكنهم أدركوا أن ذلك ستكون له آثار مدمرة على كيان ووحدة الدولة الأمريكية.
إن مسارعة حكام المسلمين، وبعض السذج من الإسلاميين إلى مباركة فوز بايدن والديمقراطيين بالرئاسة واستبشارهم بهم خيرا، هو ضعف نظر وقلة فهم في السياسة، فالحزب الديمقراطي ليس أقل شراسة من الحزب الجمهوري، فهذا روزفيلت الرئيس الديمقراطي هو من خاض حربا قُتل فيها خمسون مليونا من البشر (الحرب العالمية الثانية)، وترومان الديمقراطي هو من ضرب اليابان بالقنبلة الذرية والتي ناهز قتلاها مئة ألف، وأوباما وما أدراك ما أوباما صاحب الطائرات بدون طيار والحرب على الإسلام باسم الإرهاب وما كان منه ومن حزبه من تدمير للشام والفتك بأهلها، وإدخاله إيران وحزبها اللبناني وروسيا إلى سوريا للحفاظ على عميل أمريكا بشار الأسد هي أعمال لا تنسى؛ وإذن لا فرق بين جمهوري وديمقراطي، فاستراتيجية الحزبين استعمارية. وهذا بايدن الرئيس الأمريكي الذي هنأه (الإسلاميون!) يعلن صراحة أنه لو لم يكن يهوديا لكان صهيونيا، وهذه نائبته هاريس لا تقل حبا وعشقا لكيان يهود من رئيسها.
نقول لبعض (السذج) من الإسلاميين الذين يراهنون على الحزب الديمقراطي ورئيسه الجديد: إن أمريكا دولة استعمارية لا تقيم وزنا لعقيدة أو دين أو إنسانية أو أخلاق، بل كل ذلك لا قيمة له عندها، وإن عقيدتها ودينها هو المصلحة ليس غير، فهي ليست جمعية خيرية، وما فعله ترامب فوق الطاولة سيفعله بايدن من تحتها، وليس حكام أمريكا إلا أدوات للدولة العميقة التي تقف وراء استراتيجيات أمريكا طويلة الأمد، فلا تسارعوا في أمريكا ولا في غيرها فقد تخلت عن مبارك وأوصلت (الإسلاميين) إلى الحكم قبل أن تنقلب عليهم، ومبارك خدمها بل تفانى في خدمتها لأكثر من ثلاثة عقود، وتركت البشير مع أنه صنع لها بعمالته ما لم يصنعه غيره، ويكفي أنه جعل السودان سودانيْن!
إن مباركة الحكام فوز بايدن ليس غريباً فكلهم يخطب ود أمريكا ويقبّلون يدها ليل نهار، ويجمعهم هم وأمريكا محاربة الإسلام والحفاظ على كيان يهود.
أما مباركة من ينتسب إلى الإسلام ويقرأ القرآن ويقوم الليل ويصوم النهار فهو أمر والله عظيم.
وأذكر هؤلاء فقط بقول بوش الابن: "إنها حرب صليبية وأنه يخوضها ضد المسلمين بأمر من الرب".
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
رأيك في الموضوع