في خطوة مكشوفة ومفضوحة ومتوقعة قدم ستة وزراء استقالاتهم وهم: وزيرة الخارجية أسماء محمد عبد الله، ووزير المالية إبراهيم البدوي، ووزير الزراعة عيسى عثمان الشريف، ووزير الطاقة عادل إبراهيم، ووزير البنى التحتية هاشم طاهر، ووزير الثروة الحيوانية علم الدين أبشر، وتم إعفاء وزير الصحة معهم يوم الخميس 9/7/2020م وذلك بعد حوالي عشرة أشهر من الفشل الذريع لأداء الحكومة بأكملها وليس المستقيلين وحدهم، وبعد أن بلغ السيل الزبى وانفجرت مليونية الـ30 من حزيران/يونيو والتي ظهرت فيها شريحة كبيرة ناقمة على الحكومة وسياساتها. وكان ذلك بعد حظر أُغلقت فيه كل سبل الحياة مع عجز الدولة بالمقابل على توفير حاجيات البسطاء من الناس من أبسط ما يحتاجونه في هذه الفترة (الأكل والشرب والعلاج)، كل هذه التداعيات كان لا بد لها من كبش فداء حتى يستمر دولاب الحكومة ولا يتوقف فتسقط، وبالفعل قد حصل ذلك وأقيل هؤلاء الوزراء الذين كان بعضهم أكثر ذماً من الآخرين من الناس، مثل وزير المالية ووزيرة الخارجية؛ فالأخيرة يبدو أنها أخذت اسم وزارتها حرفياً لأنها فعلاً كانت خارجة عن هموم ومصالح الناس في الخارج والداخل، أما وزير المالية فمنذ مجيئه ما فتئ يترنم بمصطلحات أسياده.
وكان قد تم التمهيد لهذه الإقالات من رئيس الوزراء نفسه ليلة الثلاثين من حزيران/يوينو حيث أراد أن يشيطن من يتصدون لقراراته هذه ويهاجمونها، واتبع في ذلك سياسة (خير وسيلة للدفاع الهجوم) فقال: "إننا ملتزمون بتحقيق العدالة والقصاص، لضمان عدم تكرار الجرائم، التي تم ارتكابها في العقود الثلاثة الماضية، مشددا على أن القرارات المرتقبة سيكون لها أثر كبير سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وستحاول بعض الجهات استغلالها" (عربي21، 19/6/2020م). فهو كان يدرك أن هذه الخطوة ستقابل بالتعنيف من كافة شرائح المجتمع وذلك لأنها سياسة فاشلة، فتبديل شخص بآخر مع الإبقاء على ذات السياسة والبرنامج المتبع من السابق هو تضليل للعقول ليس إلا، وهذا ما هو مثبت من خلال التجارب سواء في الحكومات السابقة أو حتى الساقطة مؤخراً؛ فقبيل سقوطها قامت بتشكيل حكومة كفاءات غيرت فيها أغلب وزرائها ومنهم وزير المالية وأتت بمعتز موسى الذي كان مجيئه وبقية المسؤولين قاصماً لظهر حكومة الإنقاذ، فما هي إلا أشهر قليلة حتى اكتشف الناس أنهم قد ضللوا، فهبوا هبة أسقطوا بها تلك الحكومة. وسبحان الله! العملاء على أشكالهم يتساقطون!! فالآن السياسة نفسها تمارَس علينا وكأنهم درسوا في مدرسة واحدة وشربوا من مستنقع واحد، حتى حفظ الناس هذه الممارسة وملّوها من كثرة تجربتها عليهم، ولسان حال أهل السودان الآن (ما عندكم غيرها؟)
فمعروف بداهة أن الذي يسير دولاب الدولة هي السياسات والقوانين والأنظمة، وأن الأشخاص هم مجرد منفذين لتلك السياسات، فتغيير الشخص من غير السياسة هو لف ودوران وتضليل للعقول، وهذا ما حدث وما سيحدث؛ لأن الظاهر أنه لا توجد برامج ولا سياسات جديدة للوزراء اللاحقين بل للحكومة بأجمعها، غير التي سار عليها السابقون! فأبرز الوزارات التي تم إخلاء مسؤوليها وأكثرها تأثيراً على معاش الناس بشكل مباشر هي وزارة المالية، الهدف العام الذي كانت سائرة عليه هو سياسة التحرير الاقتصادي ورفع ما تسميه كذباً على الناس (الدعم) عن جميع السلع والخدمات، أي التنصل الكامل عن أقل تطبيق لمفهوم الرعاية، والتعويل على الدعومات الخارجية مما يسمى بـ(أصدقاء السودان) والذين أثبتوا عجزهم الفاضح عن توريد جنيه واحد لخزينة الدولة بعد لقاءات واجتماعات سفرية وإسفيرية وتأجيلات طوال السبعة أشهر المنصرمة وذلك على لسان سفير الاتحاد الأوروبي بالخرطوم روبرت فان دن، في مقابلة صحفية مع التلفزيون الحكومي، حيث قال: "إن بقاء السودان في القائمة الأمريكية يشكل عائقا أمام إعادة الإنعاش الاقتصادي. وحول دفع أموال مؤتمر الشركاء والبالغة مليار و800 مليون دولار قال السفير إن ذلك سيستغرق أكثر من عام لجهة أنه أمر بالغ الصعوبة" باج نيوز 6 تموز/يوليو 2020م. وبالتالي ذهاب البدوي ومجيء غيره في ظل السياسة نفسها المتبعة سابقاً يعني الكمد والمعاناة نفسها بل بصورة أسوأ.
وعليه فالتغيير الحقيقي المطلوب ليس من معاييره نوع الشخص إلا من حيث الكفاءة والمقدرة على تحمل المسؤولية في تنفيذ ما أوكل إليه، ويظل المعيار الأساسي والذي به يحدد الفشل من النجاح هو السياسة المتبعة وليس أي سياسة وإنما السياسة المبنية على مبدأ صحيح يوافق الفطرة ويقنع العقل، وهذا هو مبدأ الإسلام والذي تقوم فلسفة الحكم فيه على أنها رعاية لا تجبّراً وجباية فقوله ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» يعني مسؤولية الدولة عن رعاياها جميعهم؛ تضمن لهم توفير جميع الحاجات الأساسية من (أكل، ومسكن، وملبس، وتطبيب، وتعليم، وأمن) وتكون الخدمات بالمجان للجميع دون فرز، فالثروات الظاهرة والباطنة الموجودة في السودان كفيلة بتحويله إلى جنة في الأرض، بل وتمكنهم من الوصول للحصول على الكماليات، وهنا لا تظهر مصطلحات الرأسماليين الجشعة من (دعم، ورفعه، وتحرير سعر الصرف) وإنما هنا تتأمل في رحمة حكم رب العالمين؛ فيقول ﷺ: «مَنْ تَرَكَ كَلّاً أَوْ ضَيَاعاً فَإِلَيَّ» (البخاري)، وقوله: «ثَلَاثٌ لَا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ، وَالْكَلَأُ، وَالنَّارُ» (سنن ابن ماجه)، وقوله: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (البخاري)، وقوله: «وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (مسلم).
لمثل هذا فليعمل العاقلون..
بقلم: المهندس أحمد جعفر
رأيك في الموضوع