لا شك أن مآلات الأوضاع في السودان بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية تحتم الوقوف على حقيقة بنود هذه الوثيقة، لمعرفة طراز العيش وشكل الحياة، التي تؤسس لها هذه الوثيقة، بعيداً عن التضليل الكثيف الذي قلب الحقيقة رأساً على عقب، فخرج الناس يبتهجون في مقامات التعزية!
هذه الوثيقة بالعبارات نفسها الموجودة في دساتير النظام البائد، تعيد إنتاج الهوية القديمة نفسها؛ الوطنية، فتتحدث في ديباجتها عن أنها مستلهمة من نضالات الشعب السوداني والإيمان بوحدة التراب السوداني، والسيادة الوطنية، وأن المواطنة أساس للحقوق والواجبات... وكل من له عقل يدرك أن هذه الوطنية إنما هي محض رابطة عاطفية مؤقتة وفاسدة، ولا تملك أي منظومة معالجات، ولا حلول للمشاكل إذ إنها ليست فكرة مبدئية، لذلك كان حرياً بأصحاب دعاوى الوطنية الجوفاء أن يتسولوا المعالجات من فكر مبدئي، لذلك تنص الديباجة على بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، فالديمقراطية هي نظام الحكم في عقيدة الغرب الكافر، فصل الدين عن الحياة، ثم تسترسل الوثيقة في التأسيس لحياة على أساس (فصل الدين عن الحياة)، على طريقة دساتير النظام البائد، بل على طريقة جميع الدساتير التي حكمت البلاد منذ ما يسمى بالاستقلال، ومن ذلك المادة الثالثة (1) التي تؤكد بأن السودان جمهورية ديمقراطية، وفي المادة الرابعة (السيادة للشعب) وفي المادة (23) (1) المجلس التشريعي سلطة تشريعية مستقلة، وأن من سلطاته حسب المادة (24) (01) سن القوانين والتشريعات، ما يعني قوانين وأنظمة مصدرها أهواء الرجال ومصالح الحكام، الحق والباطل فيها وفق رأي الأغلبية، تخرج الناس من العبودية لله، إلى عبودية البشر!! كما أن الوثيقة أكثر جرأة من دستور النظام البائد في إظهار العلمانية، عندما تنص في المادة (7) (02) على إلغاء القوانين التي تميز بين المواطنين على أساس النوع، وهي بذلك تجعل من دعوى مساواة الرجل والمرأة في الميراث حقاً دستورياً!! إن هذه الوثيقة تؤسس لطراز العيش القديم نفسه، الذي أورد الناس موارد الهلاك؛ من الظلم، وضنك العيش، فثاروا عليه يلتمسون حياة كريمة.
أما سياسياً فإن الوثيقة التي اعتمدت يوم السبت 17/8/2019م بوساطة أفريقية ورعاية دولية هي ثمرة صراع سياسي على النفوذ بين العسكر؛ رجال أمريكا، وامتداد رجال النظام القديم، والسياسيين من قوى الحرية والتغيير المرتبطة بالإنجليز. إن السياسيين من رجال الإنجليز اتخذوا من فكرة (مدنية الدولة) أداة للعمل السياسي، وبتضليل كثيف من آلة إعلامية ضخمة خاصة وسائل التواصل الإلكتروني، نجحوا في تطويع الشارع، فضغطوا على رجال أمريكا من العسكر؛ الذين كانوا يعولون على أن يمسكوا بمقاليد السلطة من خلال ما يسمى بمجلس السيادة، لكن جرائمهم البشعة، وقتلهم للمدنيين أضعفت موقفهم التفاوضي، لذلك جعلت الوثيقة من مجلس السيادة مجلساً شرفياً من غير صلاحيات حكم حقيقية، وجعلت السلطات عند مجلس الوزراء الذي يشكله رجال الإنجليز من قوى الحرية والتغيير، في الوقت الذي تتركز فيه القوة الحقيقية؛ التي تكمن فيها السلطة في رجال أمريكا في الجيش، والدعم السريع، فقد صرح الكباشي قائلاً: (قدمنا تنازلات للمحافظة على استقرار السودان)، هذا الواقع سوف يجعل من هذه الفترة الانتقالية صراعاً مستمراً بين رجال الإنجليز وبين العساكر رجال أمريكا، قال محمد الفكي المتحدث باسم السيادي: (إن شركاءهم العسكريين يحتكرون المعلومات المتعلقة بالدولة، وهذا لا يتوفر لديه، إنهم سوف يلجأون إلى نقاط قوتهم حال عدم مشاركتهم للمعلومات، وهذا ليس في صالح الاستقرار) (كوش نيوز).
أما اقتصادياً فإن رئيس الوزراء حمدوك، ووزير ماليته البدوي، كلاهما من قراصنة الاقتصاد العالمي، وهما ضمن خبراء الصندوق والبنك الدوليين، طليعة الشركات الرأسمالية الضخمة، يخربون اقتصاديات الدول ويقدمون مواردها وثراوتها لهذه الشركات، وذلك بحسب ما أورده جون بيركنز موظف البنك الدولي (التائب) في كتابه (الاغتيال الاقتصادي للأمم، القرصان الاقتصادي). لذلك فإن البدوي وزير المالية الحالي الموظف في البنك الدولي لمدة عشرين سنة (1989م – 2009م) وقبل أدائه القسم أعلن عن اتفاقه مع البنك الدولي لإرسال 20 خبيراً ليقوم بتوزيعهم على الوزارات. وبذلك يتضح أن الاقتصاد سوف يدار بالسياسة القديمة نفسها، ألا وهي تطبيق روشتات صندوق النقد الدولي، التي تشمل تعويم العملة، وتقليل الإنفاق على الخدمات من صحة وتعليم، ورفع الدعم عن السلع والخدمات، والاستمرار في الخصخصة، بالإضافة إلى تمكين الشركات الرأسمالية من نهب ثروات البلاد، هذا عوضاً عن أخذ مزيد من القروض الربوية! علما بأن الدين يبلغ 56 مليار دولار، 75% منها ربا وغرامات، وهذه السياسة لن تنتج سوى مزيد من الفقر وضنك العيش.
أما اجتماعياً، فإن أفكار مساواة المرأة بالرجل، وإلغاء كافة أشكال التمييز على أساس النوع، وفكرة الحريات العامة، التي تنص عليها الوثيقة الدستورية، ويركز عليها من خلال وسائل الإعلام، وتبلور ذلك في سلوكيات بعض شذاذ الآفاق، كما في حالة راكبات الدراجات الهوائية، اللائي يطفن شوارع العاصمة، تحت لافتة كسر القيود، والإعلان عن دوري لكرة القدم النسائية في أيلول/سبتمبر الجاري، وظهور تلك المرأة المتبرجة، المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي، كل ذلك ينبئ عن مآلات الأوضاع بعد الوثيقة الدستورية، بأنها أوضاع ملؤها العلمانية الفاسدة السافرة المتحدية لمشاعر المسلمين، وهو بإذن الله ما يستفز مشاعر المسلمين المخلصين، وهم أغلبية أهل البلد، ولا نزكي على الله أحداً، فهذه المشاعر الإسلامية تشكل قوة دافعة، عندما تمزج بالفكر الراقي؛ مشروع النهضة على أساس الإسلام بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، والذي يتجسد في الفئة الواعية من الأمة؛ حزب التحرير. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ حاتم جعفر (أبو علي)
رأيك في الموضوع