عاشت مصر سنوات طويلة تكبلها الرأسمالية السافرة التي أتى بها عميل أمريكا عبد الناصر بعد انقلابه على الملك فاروق عميل الإنجليز، وأوهم الناس بالخطب والشعارات الرنانة التي كانت تُكتب بمعرفة السفير الأمريكي بالقاهرة وتظهر العداء لأمريكا وكيان يهود، واستمر تردي الحال من سيئ إلى أسوأ؛ فأتى السادات وكان أسوأ من سلفه، ثم مبارك فكان أسوأ من كليهما، وذلك نتاج طبيعي لكمّ النهب الذي يمارس على ثروات مصر وبشكل متزايد، ومع طول فترة حكم مبارك وتزايد الفقر والجوع والجهل والقمع وطموحه لتوريث الحكم لابنه جمال وسعيه لذلك بجدية، كان أفضل المتفائلين يظن أن الحكم لن يكون لابنه من بعده ولا يتخيل أحد أبدا أن يأتي اليوم الذي يرحل فيه مبارك حياً عن عرش مصر، وكانت شرارة الثورة التي انطلقت من تونس وطار شررها إلى مصر فقال أهل الكنانة لسنا بأفضل منهم حالاً، وخرجوا إلى الميادين مطالبين برحيل النظام، وهنا بدأ مشهد جديد لم يره أهل الكنانة من قبل، فرأينا حرية لم نعهدها سابقا، رأينا الكبار والصغار يهتفون (الشعب يريد إسقاط النظام)، يرددونها بلا وعي على معناها الحقيقي الذي يعني قلع النظام كله وليس مجرد رأسه المتمثل في شخص مبارك.
في بداية الثورة لم تدرك أمريكا صاحبة النفوذ والسيادة والحاكم الفعلي لمصر ماهيتها ولا من وراءها واضطرت لأن ترجع خطوة للخلف تمتص بها غضب الناس وتلتف بها حول ثورتهم لسرقتها والعبث بطموحها وصرفها عن غايتها، فتخلت عن عميلها مبارك وسلمت المبادرة لرجالها في المجلس العسكري ريثما ترتب الأوضاع على حسب مجريات الأمور، وأرسلت رجالها يخترقون الصفوف ويتسمعون هنا وهناك حتى وقفت على حقيقة أنها ثورة بلا قيادة ولا مشروع حقيقي للتغيير، إلا أنها ذات حسٍّ إسلامي ويشعلها أبناء الحركات الإسلامية ومنهم الإخوان المسلمون كأكبر فصيل إسلامي موجود، وهذا هو الخطر الحقيقي على أمريكا ونفوذها، فهؤلاء المسلمون الذين وقفوا في ميدان التحرير يطالبون بتطبيق الشريعة وبدولة إسلامية لن يقبلوا بعلمانية الدولة وسيظل هذا مطلبهم طالما بقيت لهم مساحة ولو قليلة من الحرية، فهؤلاء الذين تم استغلالهم وحشدهم للتصويت من أجل المادة الثانية في دستورٍ يعلم واضعوه ومن حشدوا الناس له أنها لا تسمن ولا تغني من جوع، هؤلاء إنما ذهبوا من أجل الإسلام، وعندما ذهبوا للتصويت في انتخابات مجلسي الشعب والشورى وانتخاب مرسي أيضا كان تصويتهم من أجل الإسلام ورغبة فيه وفي من يُظن قدرتهم على تطبيقه، وهذا كان الفخ الحقيقي الذي استدرجت إليه أمريكا هذه الحركات فأوهمتها أن طريق الحكم والسلطة ممهَّد بشرط الحكم بالديمقراطية، ولأنهم لا يملكون مشروعا ولم يستمعوا لمن يحمل المشروع الحقيقي كانت الطامة التي أودت بالثورة وبطموح أهل مصر في تغيير حقيقي يعيد لهم الحرية والكرامة ورغد العيش، وكان ما رأينا، فنحن شهود على الأحداث وربما بأدق تفاصيلها المؤلمة، رأينا كيف جعلت أمريكا الإخوان في الواجهة وسلمتهم سلطة منقوصة بلا قوة ولا منعة ولا سلطان، وحمّلتهم كل أوزار النظام وأطلقت كلابها تنهش لحمهم وغايتها أن تقول لأهل مصر هذا هو الإسلام الذي تريدون فشل في الحكم ولم يعالج مشكلاتكم ولا خيار أمامكم غير علمانيتنا ورأسماليتنا! رغم أن الإخوان لم يحكموا بالإسلام ولم يطالبوا بحكمه، وإلى الآن يرتمون في أحضان الغرب ويطالبون بشرعية الديمقراطية! ثم انقلبت عليهم وأطلقت يد عميل جديد من عملائها ليغلق هذه المساحة من الحرية التي أوجدتها ثورة يناير، وحتى تغلق هذه المساحة التي تعطش الناس لها كان لا بد من استعمال قوة غاشمة تذبح وتنكل وتحرق وتدهس وتغتصب وتنتهك الحرمات، وهو عين ما رأيناه في رابعة والنهضة وقبلهما في الحرس الجمهوري وبعدهما في رمسيس، وأظهر النظام وحشيته في التعامل مع كل من له حس إسلامي، وأصبح أمام الناس مستباحَ الدم والعرض والمال بدعوى أنه (إرهابي) ينتمي لجماعة محظورة، تلك الشماعة الجاهزة لكل من يسعى للتغيير.
وقد يرى الناظر غير المتفحص أن الأمر قد استتب بعد سنوات من الثورة والانقلاب عليها، إلا أنه استقرار فوق رماد أسفله نار مشتعلة تنتظر هبة ريح تكشف عنها الرماد فتشتعل في كل ما فوقها، فواقع مصر لم يعد حتى كما كان في أيام مبارك بل صار أسوأ مما كان، والسيسي يمعن في الانبطاح وتنفيذ قراراته التي لم يجرؤ غيره على تنفيذها، وأعلن ثورته الدينية على ثوابت الشرع في حرب معلنة على الإسلام وأحكامه، وزاد من بطشه وضغطه على أهل مصر وتضييقه عليهم في أرزاقهم وأقواتهم ما جعلهم مؤهلين للانفجار في أي لحظة، إلا أن ما يؤخر هذا الانفجار هو عدم وعيهم على البديل الحقيقي الذي يصلح حالهم ويضمن لهم نجاح ثورتهم وتحقيق طموحهم في عدل وحرية وكرامة ورغد عيش.
هذا هو واقع مصر الآن بعد سنوات من فرصة تاريخية كانت كفيلة بتغيير وجه الأرض وتغيير كل العلاقات والقوانين والأعراف الدولية، بل فلنقل تغيير خريطة المنطقة كلها، كان ينبغي على الثوار ألا يضعوا يدهم في يد خائن عميل، وألا يمارسوا السياسة كما يريد الغرب وحسب قواعده وكانت قوة الثورة واحتضان الناس معهم حينها، وهذه القوة وحدها كانت كفيلة بإجبار الجيش وقادته على الخضوع لمطالبهم دون الحاجة لاستفتاء على دستور وضعي ودون الدخول في انتخابات على أساس الديمقراطية ودون الدخول في مساومات تسليم سلطة منقوصة، بل كان ينبغي أن يكون لدى هؤلاء دستور أساسه العقيدة الإسلامية التي يؤمنون بها كالذي عرضه عليهم حزب التحرير، وأن يحملوا للأمة تصورا كاملا لكيفية تطبيق الإسلام عليهم في دولته؛ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وأن يطلبوا الحكم بحقه من الجيش كاملا ليطبقوا الإسلام في دولته، ولم يكن أمام الجيش وقادته حينها إلا الخضوع والتسليم وإلا دارت بهم الدائرة.
والآن وفي ظل حالة الغليان المكبوت التي تعيشها الكنانة في انتظار لحظة الانفجار فلا خلاص إلا بأن يضع الناس أيديهم على المشروع الحقيقي الذي يدفعهم للخروج والموت في سبيل تحقيقه، وهذا لا يكون إلا بمشروع الإسلام المنبثق من عقيدتهم، حينها تكون الثورة الحقيقية التي تدفع المخلصين من أبناء جيش مصر لنصرتها وتسليم الحكم للمخلصين القادرين على تطبيق الإسلام في دولته، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله... اللهم عجل بها واجعلنا من جنودها وشهودها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الأستاذ سعيد فضل
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع