مع إطلالة فصل الشتاء ومع أول زخة مطر، كانت كفيلة بغرق أكثر المحافظات العراقية،المطر الذي يعتبر بشير خير وأمل ومؤشر نماء وموسم زراعي ناجح، إلا أنه حول حياة الناس إلى كابوس وأصبح نذير شؤم يحمل أخبار الغرق وانقطاع الطرق وغرق الأبنية وانهيارات التربة وإتلاف المحاصيل، وموت الناس حيث توفي 21 شخصاً، ونزوح عشرات آلاف العائلات، وهلاك المواشي؛ كل ذلك سببه تردي الخدمات وتهالك شبكات تصريف المياه وعدم متابعتها وصيانتها في ظل فساد مالي وإداري رهيب ينخر مؤسسات الدولة ويتجاهل أبسط حقوق الناس.
فصل الشتاء يحل كل عام في الموعد نفسه ويصاحبه هطول للأمطار بمقدار لا يتغير كثيرا ما لا يترك مجالا للمفاجأة وتبرير عدم الاستعداد الحكومي لهذا الموسم.لكن الحكومات المتعاقبة التي جاء بها المحتل كعادتها تركت الأمر برمته وتفرغت لخلافاتها حتى وجدت موسم الأمطار يدق الأبواب، وهي تشاهد تبعات هطول الأمطار القاسية على الناس وخصوصا النازحين منهم وتقف موقف المتفرج اللامبالي بحياة الناس وممتلكاتهم. الفواجع التي ألمت بالشوارع والمنازل والطرق والمؤسسات والمزارع هذه كانت لها مقدمات أفضت لها بعد أن أقر عضو لجنة الخدمات في مجلس محافظة بغداد بتلكؤ دوائر البلدية التابعة لأمانة بغداد الحالية في الاستعداد لموسم الأمطار، وهو ما تسبب في غرق عدد من مناطق العاصمة وخاصة في جانب الرصافة، وما يسري على بغداد يسري على باقي المحافظات التي تلكأ مسؤولوها في الاستعداد للموسم، وتفرغوا للنزاعات على المصالح والنفوذ والتهام ما يمكن التهامه من كعكة العراق الجريح!
أمام هذا الواقع المزري المتعمد تزداد الصورة قتامة مع أوضاع النازحين الأكثر تضررا في فصل الشتاء، الذين يرزحون تحت وطأة أوضاع إنسانية صعبة لا تكفل لهم الحد الأدنى من العيش الكريم، الأمطار التي أتلفت الخيام البالية أصلا والتي مضى على نصبها أكثر من سنتين حيث أكدت جمعية الهلال الأحمر في العراق، على لسان العضو فيها "إياد رافد" أن الأمطار والرياح الشديدة اقتلعت عدداً من خيام النازحين، موضحا أن أوضاعهم صعبة للغاية في ظل انخفاض درجات الحرارة والإهمال الحكومي الذي تسبب في نقص شديد في المياه الصالحة للشرب وغياب الأمن وإتلاف المؤونة والفرش، في كارثة تضيف مزيداً من البؤس للنازحين الذي يقطنون المخيم، ما ضاعف من معاناتهم خصوصا معاناة الأطفال وكبار السن منهم.
ووسط هذه الأوضاع المزرية وصل الإهمال والاستخفاف والمتاجرة الحكومية بمعاناة النازحين إلى درجة توزيع مواد منتهية الصلاحية، وهو ما أكدته مؤسسات معنية بحقوق الإنسان، ومنها اتهام المفوض في المفوضية العليا لحقوق الإنسان (وحدة الجميلي) لفرق بوزارة الهجرة بتوزيع مواد غذائية منتهية الصلاحية ومن النوعيات الرديئة والمتعفنة على النازحين.
إنأزمة السيول في العراق كشفت حجم الإخفاق الإداري المصحوب بفساد مالي، في عمل الحكومات المحلية للمحافظات المنكوبة، ورغم مرور أكثر من عقد على مطالبات الأهالي ببنية أساسية جيدة، لم تنجح هذه الحكومات في إنشاء شبكات لتصريف المياه وإقامة سدود وخزانات تجنب السكان ويلات الهجرة القسرية وغرق ممتلكاتهم، رغم أن محافظة واسط على سبيل المثال، تجتاحها السيول كل عام بشكل متكرر. وعلى الرغم من أن العامين الأخيرين في العراق شهدا موجات غزيرة في هطول الأمطار، إلا أن البلاد تعاني كل صيف من الجفاف، حتى وصل الحال إلى معاناة مدينة كالبصرة من عدم توفر مياه للشرب! وفي هذا الصدد، يقول المحلل الاقتصادي العراقي "أحمد الفتاح" إن العراق كان يمكن له الاستفادة من هذه الأمطار وملء خزانات السدود والنواظم، لتخزينها واستغلالها صيفاً، لافتاً إلى أن مياه الأمطار العذبة تذهب إلى الخليج العربي، وتختلط بالمياه المالحة من دون أي استفادة منها. وفي حديثه لوكالة "يقين" أوضح الفتاح أن مدينة الشرقاط كان يمكنها تجنب هذه الكارثة لو أقيم ناظم الشرقاط حول المدينة، وهو مشروع مخطط له منذ ثمانينات القرن الماضي، لافتاً إلى أن الطبيعة الجغرافية للمنطقة تساعد على إقامته من دون تكلفة كبيرة. لكنه الفساد والسرقة وهدر الأموال على مشاريع ترقيعية تسبب في غرق الكثير من المناطق الرئيسية في العاصمة وبقية المحافظة المذكورة بالأمطار. وكالعادة فمع كل خلاف داخل البرلمان أو مناكفة بين السياسيين على كافة الأصعدة يخرج أحدهم ليكشف فساد الآخر ويقر بفشل المنظومة ككل ويبرهن على إهمال الاستعداد لحدث متوقع وهدر وسرقة للأموال المخصصة للنازحين ولإعمار البنى التحتية.
إن الحقيقة باتت واضحة أمام أهل العراق وضوح الشمس لحظة الشروق، إذ إنه ومنذ العام 2003 لم يحاسب مسؤول عن فساده، فالفساد في العراق ما عاد حالة استثنائية وإنما بات القاعدة ويُمارس لذاته ويُمارس كسلاح في الحرب المحتدمة على الحكم بين الطغمة الفاسدة. والفساد في العراق يقاس بالمليارات وهو من فعل كبار المسؤولين والساسة ونواب الشعب، فكانوا القدوة لغيرهم من الفاسدين.
إن الفساد الاقتصادي والمالي وإهمال أحوال الناس ومعاناتهم واستغلال النفوذ هو نتيجة الفساد الأكبر الذي تعاني منه البلاد ألا وهو الفساد السياسي أي فساد النظم والقوانين المتحكمة في علاقات الناس. فما دام الدستور وسائر القوانين تُشرّع حسب أهواء ومصالح النخبة الحاكمة ومصالح وُكلائهم، وما دامت هذه النخبة تعتمد قاعدة فصل الدين عن الحياة أثناء البحث عن الحلول التشريعية فلا عجب أن تُسنّ القوانين من أجل تمكين الفاسدين من ثروات المسلمين بحجة الاستثمار والخصخصة والإعمار، ولا غرابة من سنّ قوانين من أجل العفو عن المجرمين ممن نهبوا الأموال العامة والخاصة بحجة حماية الاقتصاد، ولا عجب من سنّ القوانين التي تفرض المزيد من الضرائب على الضعفاء من الناس بحجة دعم موارد الدولة...
فلا ينبغي أن يتوقع أحد من الناس أن يأتيه خيرٌ من هؤلاء الحكام. إننا ندرك الحقيقة بأن شدّة الظلم ومرّ العذاب والقهر وضياع الأموال والأنفس والثمرات، وشدة المصائب على تنوعها التي حلت بالمسلمين بعد ضياع الحكم بالإسلام، وتسلط الأنظمة الجبرية على رقاب المسلمين بفعل الكافر المستعمر، هذه الحقيقة تنتج وتوجب حقيقة التغيير الحتمي، فمهما قلبنا أبصارنا في السماء، وفكرنا في المخارج، فلن نجد إلى خروج من سبيل إلا سبيل التغيير الحقيقي الحتمي الجذري الشامل.
ولن يكون ذلك إلا بالعمل من أجل استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي ترعى شؤون الناس كل الناس بالعدل والحق والخير بنظام من رب العالمين وحده الخالق المدبّر لا غير.
بقلم: الأستاذ علي البدري – العراق
رأيك في الموضوع