لا يخفى على أي متابعٍ للأحداث ما تمرّ فيه ثورة الشام هذه الأيام من مأزقٍ خطير، قد يَنتُج عنه بكل بساطة ما دَأَبْنا على تحذير القائمين على الثورة منه منذ بدايتها وإلى الآن، وهو القضاء المبرم على هذه الثورة العظيمة، ومكافأة تضحياتها الجسام بالإبقاء على نظام الحكم السياسي العلماني العميل لأمريكا قائماً في سوريا.
- ويجب ألا يخفى على أي متابعٍ كذلك ماهيّة الأسباب التي أدّت إلى مرور الثورة في هذا المأزق الخطير، الأسبابِ التي لم تُفرض على القائمين على الثورة فرضاً من قبل أعدائها، بل هي أسبابٌ ذاتيةٌ كامنةٌ في نفوسهم كمون أسباب الموت في نفس الكائن الحي. إنها أسباب فكريةٌ وسياسية، تعطي صورةً صادقةً عن مأزق الفكر السياسي الذي تمرّ فيه الأمة الإسلامية، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بشلل الفكر السياسي الذي يعاني منه معظم قادة الأمة والقائمين على شؤونها فكرياً.
- وعندما نتحدث عن قادة الأمة والقائمين على شؤونها فكرياً فلا نقصد أبداً القادة السياسيين من الحكام العملاء، فهؤلاء مفصولون تماماً عن الحراك السياسي للأمة، هم وأذناب الغرب الكافر من العلمانيين، بل نقصد قادة الفكر السياسي الإسلامي في الأمة، والمفترض أنهم المسؤولون عن نهضتها فكرياً وسياسياً، المهتمون بقضية إعادتها إلى المكان اللائق بها بين الأمم.
- وبنظرةٍ موضوعيةٍ فاحصةٍ إلى هؤلاء القادة، الآخذين بتلابيب فكر الأمة في هذا الزمن الصعب، نجد أن معظمهم لا يخرج عن الانتساب إلى أحد تيارين فكريين سياسيين رئيسيين، هما تيار الفكر الواقعي، المهزوم من الداخل، بل والمضبوع، الذي فقد أصحابه الثقة بأنفسهم وبأمتهم وبدينهم وبربهم، وراحوا يتسولون الحلول لمشاكل الأمة الفكرية والسياسية إما من عواصم دول الغرب الكافر المستعمر، وإما من بنات أفكار روّاده ومفكريه... ورائد هذا التيار هي جماعة الإخوان المسلمين، وما انبثق عنها ولفّ لفّها من حركات وتنظيمات، ومن صنعتهم على أعينها أنظمة العمالة من بعض أصحاب العمائم واللحى.
- أما التيار الآخر فهو التيار السلفي الوهابي الذي يتشبّث أصحابه بما يظنونها أصولاً للدين، وينظرون إلى من عداهم من أبناء أمتهم باتهامٍ واستعلاء، وهم على اختلاف تنظيماتهم وفصائلهم خواءٌ في السياسة، لا يعلمون منها سوى التسلط والجباية والعقوبة. لا يقدرون بفكرهم على القيادة ولا هم بقادرين على الانقياد. ليسوا بخونة، ولكنهم قد يجرّون على الأمة شروراً أكثر مما يجرّه الخونة.
- وما يجمع بين أصحاب التيارين السابقين، غير تلقيهما الدعم من دول وأنظمة عميلة، هي ردة الفعل الغرائزيةُ على الأحداث، منذ النشأة الأولى وإلى الآن، والإيمان العميق بفكرة المصلحة العقلية مصدراً للتشريع.
- فحالة الانضباع التي تَصِمُ جماعة التيار الواقعي نشأت نتيجة الانبهار بما لدى الكفار المستعمرين، وهي حالة غرائزية مشاعرية غير فكرية، أدت بأصحابها إلى قبول كل ما أتى به المستعمرون من أفكار وأنظمة، وإعلائها وتعظيمها، بل وادّعاء نسبتها إلى ديننا الحنيف، كما حدث مع أفكار الاشتراكية والديمقراطية والدولة المدنية. أما إيمانهم بالمصلحة فقد دفعهم إلى تحليل ارتكاب جميع ما حرّم الله في الكتاب والسنة، وعلى قمة هرمها يقف الحكم بغير ما أنزل الله.
- أما السلفية الوهابية فقد نشأت بداية كردّة فعل غرائزية عنيفة على ما تعيشه الأمة من تدهور واضطراب، نتج عنها اتهامُ الأمة بالابتداع في دينها والضلال، وادّعاء حيازة ألقاب الطائفة المنصورة والفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة. أما المصلحة فقد أباحت لهم الكذب والقتل وأن يتحالفوا مع الكفار ضد المسلمين، ولا يدركون السياسة الشرعية إلا أنها فن لتقديم التنازلات! إضافةً إلى ما يتميزون به من الأهوائية والفكر الانشطاري الذي يأكل بعضُه بعضاً، وغير المنضبط بضوابط محددة.
- وبسبب التقارب الفكري - الغرائزي بين هذين التيارين رأينا حالات عديدةً من مفكرين وضعوا قدماً في كل مركب، وكان لهم في كل سوقٍ مزاد... فعندما يكون أحدهم شاباً متحمساً يكون سلفياً متشدداً، بل وتكفيرياً أحياناً، ويكون الإخوان الذين يحكمون بغير ما أنزل الله في نظره مرتدين، وفي الشيخوخة، وبعدما يصطدم بحقيقة بطلان فكره وفشل تجاربه، يتحول إلى الواقعية، ويصبح تلامذته السابقون في نظره أعتى من الخوارج!
- هذا بإيجازٍ شديدٍ عن هذين التيارين وبعض خصائصهما التي لن يحيط بها مقالٌ في جريدة، بل الأمر بحاجة إلى دراسات ومؤلفات. لكن بالعودة إلى ثورتنا العظيمة، وما عمل فيها أصحاب هذين التيارين من هدم وتخريب حتى وصلت إلى ما هي فيه من مأزق خطير، فحدّث ولا حرج!
- فما إعادة الروح إلى العلمانيين، وجعلهم ينتصبون على أقدامهم من جديد، ويقودون الثورة والثوار نحو الهاوية... أقول: ما ذلك إلا ثمرةٌ من ثمار تحالف الواقعيين معهم منذ تشكيل المجلس الوطني وحتى ائتلاف المعارضة، وسنرى ما هم مقبلون عليه من الشراكة مع العملاء في منصتي موسكو والقاهرة، واستعدادهم بالتالي للتحالف مع النظام نفسه إذا قبل النظام بالتحالف معهم!
- أما الجماعات السلفية فبسبب أخطائها المتراكمة في فهم أحكام الإسلام وكيفية تطبيقها، واستعلائها على الناس وإساءاتها، وخوائها من المشروع السياسي الإسلامي الواضح المحدد، والتقاتل الحاصل بينها من جهة، وبينها وبين غيرها من الفصائل من جهة ثانية... كل ذلك أحدث ردة فعل عارمةً عند الناس، جعلت بعضهم يفرّ من المشروع الإسلامي، وأفكار تحكيم الشريعة وإعادة الخلافة، فراره من الوحوش الضارية!
- وما قبول دعم فصائل الثورة من الدول العدوة للإسلام، ورهن قرارها السياسي لرجال مخابرات تلك الدول، إلا ثمرة من ثمار الجهل السياسي لدى أصحاب هذين التيارين، واقتناعهم بفكرة تقاطع المصالح مع الدول العظمى.
- نعم لأن الثورة خرجت عفوية، بدون تخطيط لها أو تدبير، فلقد تلقاها هذان التياران الغرائزيان الانفعاليان من بدايتها، وهما يقودانها الآن نحو حتفها المؤلم. ولأن السواد الأعظم من أبناء الأمة في الشام وخارجها لا زالوا نياماً على قارعة الطريق، فسيبقى يقودهم إما هؤلاء وإما هؤلاء، نحو احتواء روحهم الثائرة، ثم تدجينها وقتلها، وتكريس نفوذ الاستعمار.
- هذا وستبقى الأمة في حالة التخبط القاتلة هذه، حتى تتبنى الخيار الثالث، الذي يكسر احتكار هذين التيارين لدفة قيادة الأمة، وتناوبهما على نقلها من فشل ذريع إلى فشل أفظع... وهو المشروع الفكري السياسي الذي يقدمه حزب التحرير، بثباته على مبدئه، وفهمه الواضح للإسلام، فيمثل بصدق هذا الدين العظيم، ويعبّر بحقٍّ عن تطلعات أبناء الأمة نحو التحرر والانعتاق.
بقلم: عبد الحميد عبد الحميد
رأيك في الموضوع